انطباعات بقلم الدكتور محي الدين عميمور دخل إلى حلبة الحوار حول التعديل الدستوري من يعرف ومن يهرف، وأجد نفسي مضطرا إلى أن أدلي بدلوي بين الدلاء، وأتذكر بداية حكمة إفريقية سمعتها يوما من الرئيس الراحل سياكاستفنس تقول ما معناه : "إذا أردت أن تتجه إلى الأمام فانظر لحظاتٍ إلى الخلف"، وهو ما أفعله. فبعد استرجاع الاستقلال وفي فورة الحماس الشعبي تم اعتماد دستور أعدته نخبة من المجاهدين وقلة من المثقفين وعدد من المتخصصين، ولم يُعمل بهذا الدستور إلا أياما معدودة إذ حدث الغزو المغربي في أكتوبر 1963 وعُطّل الدستور تطبيقا للمادة 58 أو 59 على ما أذكر. وعندما أقيل الرئيس أحمد بن بله في ظروف لا مجال لاستعراضها اليوم تعامل الرئيسُ هواري بو مدين، مع قضية الدستور ببراغماتية، فقد انتظر نحو عشر سنوات قبل أن يقترح دستورا جديدا ارتكز في معطياته الأساسية على ميثاق وطني استلهم التجربة الجزائرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا، وأخضِع لمناقشة جماهيرية واسعة، بحيث كان دستور 1976 تعبيرا حقيقيا عن إرادة الجماهير، رغم ثغرات شابته في مجالات لم تكن للجزائر فيها تجربة حقيقية. وكان من اهتمامات الدستور، وانطلاقا من الميثاق الوطني، التأكيد على أن الإسلام هو دين الدولة واللغة العربية هي لغتها الوطنية والرسمية، وعلى أن النهج الاشتراكي اختيار لا رجعة عنه، رغم أنه كان، ولعدم وجود طبقة رأسمالية وطنية، اضطرارا لا مفرّ منه، تماما كقضية الحزب الواحد، حيث احتفظت جبهة التحرير الوطني بدور القيادة الذي بدأت ممارسته مع انطلاق الثورة في أول نوفمبر 1954. واعتبرت السلطات الثلاث في الديموقراطية الغربية وظائف متكاملة لسلطة واحدة، وهو منطق نزيه انسجم مع الواقع، وهكذا كانت هناك الوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية والوظيفة التشريعية، التي بدأت في القيام بدورها على المستوى الوطني في العام التالي، بعد أن جرت التدريبات الشعبية على ممارستها منذ 1967 على مستوى البلديات ثم الولايات، وكان على رئيس الجمهورية أن يقدم خطابا سنويا عن وضع الأمة للبرلمان. وكان من ملامح عقلانية الدستور وفعاليته تمكنه من ضمان الانتقال الديموقراطي للسلطة إثر الوفاة المفاجئة للرئيس بومدين رحمه الله، وكان من عيوبه عدم توضيح الميكانيزمات التي تواجه بها وضعية الشغور الرئاسي. وجرت أول محاولة للتعديل في نهاية الثمانينيات إثر تولي الرئيس الشاذلي بن جديد، ولم يتم فيها اللجوء إلى الاستفتاء لأن التعديلات لم تكن تمس الجوهر، ثم أجري تعديل آخر نتج عنه تعيين وزير أول، وليس رئيس حكومة، وذلك على أساس مراجعة للميثاق الوطني لم تحظ بما حظيت به سابقتها. وأجريت تعديلات أخرى في نهاية الثمانينيات وكانت كلها تعديلات فوقية أعدها فريق عمل تم اختياره طبقا لمقاييس محددة، ولم تناقشها الجماهير أو الطبقة السياسية، ورغم أن جهدا كبيرا بذل لاستلهام الماضي فإن خلفيات كثيرة فرضت نفسها بحيث كان من التعديلات التي أثارت السخرية تعديل المادة التي تلزم الرئيس بخطاب سنوي أمام البرلمان فأصبحت تقول بأنه يُمكن للرئيس أن يُلقي خطابا عن وضع الأمة، وادعى البعض أن الخلفية كانت إراحة الرئيس من الخطب الرسمية المكتوبة. ثم جاءت العشرية الدموية التي لم يتسبب فيها، كما قيل آنذاك، السماح بقيام حزب من منطلق ديني، بل كانت الشرارة اعتماد قانون الانتخابات على نظام الأغلبية الذي يعطي اليد الطولي للمنتصر الأول ويُسحق من يأتي بعده، وهكذا حصلت جبهة الإنقاذ في الدور الأول على نحو 188 مقعدا بناء على حجم أصوات ناهز ثلاثة ملايين صوت، بينما حصلت جبهة التحرير على نحو 18 مقعدا فقط رغم أنها حصلت على نصف أصوات الإنقاذ، وعرفت الجزائر حماقات سياسية أدت إلى ما هو معروف. وفي 1996 طلعت فكرة تعديل الدستور من جديد، ووقفتُ ضدها لأنها بدت مرتجلة ومتسرعة وتنطلق من خلفية واحدة هي إغلاق الباب أمام تحكم اتجاه سياسي مُعين في المجلس الوطني الشعبي، ولكن التعديل تم في جو من الافتعال، وخرجنا بدستور يشبه الخنثى المُشكل فلا هو رئاسي ولا هو برلماني، وهو ينشئ غرفة ثانية بدون صلاحيات ولا يُنظم عملية اجتماع الغرفتين ويُعطي لرئيس الحكومة، أي للسلطة التنفيذية، حق استدعاء اللجنة البرلمانية متساوية الأعضاء، وثغرات أخرى أشبعها الرفقاء بحثا وتحليلا. وإذا كان لا بد من الاعتراف بأن تعديل الدستور ضرورة حتمية للبلاد، فإن نظام المخابر المُغلقة التي تخضع لتوجيهات محددة ليس هو الطريقة الأمثل لمواجهة الواقع، فهناك إحساس طاغٍ اليوم بأننا نعيش في مستنقع سياسي راكد المياه مُغلق الآفاق مُظلم السماء عطن الجو، وهناك أزمة ثقة بالغة الخطورة تتجسد في وجود شرخ يُتزايد عُمقه بين الجماهير والشرائح السياسية العلوية بكل من فيها من سلطة ومعارضة، ولا أدل على ذلك من النتائج المتدنية للمشاركة في الانتخابات الماضية، وهناك مآزق دستورية يجب أن تجد حلولها العملية، وبالتالي فالأمر يهم الجميع. لكن الجزائر اليوم، وهي تضم شخصيات سياسية متميزة، تفتقد بصورة عامة طبقة سياسية تتكون من أحزاب تمارس العمل السياسي في كل مجالاته، وترتبط قواعدها مع قممها بجسور ذات اتجاهين، وهو ما ينطبق أيضا على المجتمع المدني الذي أنشئت بعض جمعياته لأهداف سياسية من بينها المزايدة على الأحزاب القائمة، ولا يهمني المسؤول عن ذلك أو المُتسبب فيه. ما يُهمني هو أن نجعل من التعديل الدستوري فرصة لعملية شعبية واسعة ومُنظمة، تكون منطلقا لانتفاضة سياسية واعية تستنفر حماس الجماهير وتعطيها الإحساس بالانتماء الكامل للوطن، واقعا يوميا وأهدافا مستقبلية، وتعيد فرض معادلة الحقوق والواجبات بما يؤكد الاطمئنان إلى تكافؤ الفرص والتضحيات، وتستنفر أفضل ما في الأمة من كفاءات ليتم تسخير كل الطاقات البشرية والمادية في سبيل الرقي والازدهار، وتعيد الصلة العضوية بين القواعد وكل ما يوجد ومن يوجد على القمم، وتستبعد المتاجرين بقضية العهدة الرئاسية، أو الذين يُناورون للبقاء على قمة سلطة حزبية متآكلة فقدت رصيدها الشعبي وتمارس التزوير غير المباشر عبر أسلوب "رأس القائمة" الذي يفرض على الجماهير اختيارات مشبوهة أو مدسوسة أو مُغرضة، تجعلها تقاطع الانتخابات بما يؤدي إلى المساس بمصداقية المجالس المُنتخبة. وضمان النجاح لعملية كهذه هو المشاركة الجماهيرية الواسعة التي تعيد تجربة الميثاق الوطني في 1976، حيث أن مساهمة كل مواطن في الحوار تجعله شريكا في الأمر لا مجرد متفرج عليه، وجزءا من القرار لا مجرد أداة لتنفيذه، وهو ما يفترض ألا يقتصر الأمر على خبراء القانون الدستوري مهما كان مستواهم، ناهيك عن الاعتماد على خياطي المُناسبات وخطباء الميادين العامة والمُتاجرين بشعارات مساندة رئيس الجمهورية، والذين يسيئون له بأكثر مما يسيء له أسوأ خصومه وشرُّ أعدائه. وهكذا يولد مشروع منسجم لتصحيح بناء المجتمع واستكمال مقومات هويته، يصوغ الخبراء بنوده التي تضع نظرة إستراتيجية شاملة لجزائر العقود الخمسة أو العشرة المقبلة (وأقول العقود لا السنوات) وترسم في آن واحد إستراتيجية الأمن القومي (لنحدد سياستنا تجاه ما يدور حولنا ويتم ترسيم خطوط الدفاع الوطني التي تتجاوز خطوط الحدود الجُغرافية) وإستراتيجية الأمن الوطني (لكي يكون مهمة يتحملها كل مواطن في موقع عمله ومجال حياته لا مجرد إجراء تكلف به الشرطة) وإستراتيجية التربية والتعليم والثقافة (لكي نخرج من عملية إصدار الشهادات المدرسية إلى منهج متعدد المراحل لإعداد الأجيال القادمة، يأخذ فيه المعلم كل حقوقه المعنوية والمادية ليصبح حيث يتحتم على كلٍّ أن يوفّه التبجيلا) ولنواجه كارثة الشرخ اللغوي الذي يُهدد أمننا القومي ووحدتنا الوطنية على المدى المُتوسط والبعيد، ثم إستراتيجية الاقتصاد الوطني، لكيلا نظل فريسة اقتصاد البازار أو الترابندو، وإستراتيجية الصناعة الثقيلة والخفيفة والتجارة لنخرج من عهد العبودية المطلقة لآبار النفط وحقول الغاز. إذا أردنا إنجازا يستفيد من أخطاء الماضي ويرسم للجزائر طريق مستقبلها في العقود القادمة، ويُغلق الباب أمام تجار يمارسون السياسة بدون رأس مال، وينتفعون منها بدون مردود فعلي، ويعيشون على وقائعها كالعلق، فإن الطريق هو استفتاء جماهيري تسبقه مناقشة واسعة عبر كل الأجهزة الإعلامية ومن خلال كل المؤسسات السياسية والاجتماعية، وهذا هو على وجه التحديد ما تحاول تفاديه أصوات تخشى الانتفاضة الوطنية الواعية التي تؤدي إلى تطهير الساحة من الهوام الطُفيلية، وهكذا تركز على مادة دستورية واحدة، يُمكن أن يتم التعامل معها في جلسة برلمانية لا تستغرق أكثر من نصف ساعة، حيث أن أحزاب الأغلبية أعلنت موقفها المؤيد ولم تخف حماسها، وأيا كانت خلفيات البعض أو أهداف البعض الآخر. ولعل فتح الإعلام الثقيل للحوار الموسع الذي لا يُستثنى منه أحد هو الفرصة الوحيدة لكي يسترجع إعلامنا المرئي والمسموع مصداقيته، فلا نظل عبيدا لفضائيات نلعنها علنا ولكننا نتابعها سرا بكل اهتمام، ليس لأنها تملك المصداقية المطلقة ولكن لأن إعلامنا، في مجموعه، فقد المصداقية المطلقة. ولا مجال للتحذير من ضيق وقتٍ يفرض علينا تسرعا عانينا منه طويلا وقادنا إلى تصرفات مرتجلة كلفتنا الكثير، فالحكمة تقول: نحن على عجل ولهذا يجب أن نسير ببطء. انطباعات عابرة - * بعض السفراء الأجانب الذين يعطوننا دروسا عن الوضع الداخلي في الجزائر أقول لهم .."اخرسوا"، وأقول لمن يهمهم الأمر .. "تحركوا". - * رجاء لمن يكتبون أو يُعلقون على مقالاتي ومذكراتي : تعاملوا مع ما تقرؤونه ككل متكامل لا بأسلوب ويل للمصلين لأن الخاسر الأول هو نزاهتكم.