مجاهدون وأبناء شهداء يتحركون لمقاضاة رئيس جزائري أسبق بعد اتهامه بإصدار أمر إعدام عقيد مجاهد يوما ما وفي ظرف ما.. وجدل طويل عريض حول جزء من تاريخنا اصطلح عليه القاعدة الشرقية.. هذه هي البداية وما زال في جعبة القوم الكثير.. أما أجيال الاستقلال فيريدون لها الانتظار إلى أجل غير مسمى. قاعدة شرقية أم غربية، جنوبية أو شمالية.. أمر مهم للغاية من الناحية التاريخية والحفاظ على الذاكرة الوطنية، لكنها تظل هامشية ولن تدخل "المجال الحيوي" لشباب تناوشه المشاكل من جميع الجوانب وتسعى لدفعه دائما إلى الزوايا الضيقة ومن ثم الهروب في الليالي الحالكة على القوارب المتهالكة أو الالتحاق بجماعات الجريمة التي صارت شبه منظمة، وما شابه ذلك من مظاهر الإفلاس الشباني في بلادنا. إن الحديث عن القاعدة الشرقية وبقية "الزوايا التاريخية الحادة" التي عرفتها ثورتنا التحريرية العظيمة أمر ممتع ومفيد للغاية، خاصة بالنسبة لجيل الاستقلال، شرط أن يكون هذا الجيل في وضعية تتيح له الاستماع والقراءة والبحث، لأن الطّامات التي يعيشها شباب اليوم وحجم الإحباطات التي يتخبط فيها تحول دون متابعة مثل هذه القضايا أو قراءتها، فذلك من قبيل الكماليات والترف الذي يستحيل تحقيقه مع الواقع المزري، ولأن الحديث عن تلك القاعدة لن يجدي نفعا هذه الأيام بعد أن أوصلتنا مشاكلنا المتراكمة، ودسائس ما وراء البحار، إلى قاعدة أخرى تضرب هنا وهناك وتثير التساؤل تلو الآخر، إضافة إلى "قواعد" أخرى متنوعة ومتعددة الألوان والمشارب. حديث الماضي طويل ومتشعب، وإذا بدأ البعض نبش المطمور منه تحت تراب النسيان والمصالح والتوازنات فقد يحدث ما لا يخطر على بال.. سيتحول ذلك المنسي إلى سيل عارم يصعب الوقوف أمامه أو التحكم في مساراته ونتائجه، حتى لو كانت البداية مقصودة ومدروسة بدقة متناهية، وليست مجرد هفوات أو ردود أفعال أو تصفية حسابات آنية أو التنفيس عن ضغوط وترسبات سابقة. سينتقل الحديث بعد البداية السهلة وبسلاسة تامة إلى ملف التصفيات الجسدية والأخطاء التي شهدتها سنوات الثورة وشاعت بين عدد من رجالاتها، وسيتوسع آخرون في الحديث عن الخلافات بين التوجهات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة بين قيادات الثورة في الداخل والخارج، وسيتوقف الكثيرون أمام مؤتمر الصومام ومدى انسجام مقرراته أو طروحات منظريه مع بيان أول نوفمبر، وسينتقلون بعد ذلك إلى مفاوضات إيفيان وإعلان الاستقلال ودولة ما بعد الاستقلال خاصة سنوات المخاض الأولى التي أنهاها انقلاب الرئيس هواري بومدين أو حركته التصحيحية. إن إجماع العقلاء منعقد على أن الحق المطلق مكفول لكل باحث كي يتناول أحداث الثورة بشكل علمي منهجي حيادي، لكن الإجماع الذي ينبغي أن ينعقد، أو يترسخ عمليا إن كان منعقدا، هو إدانة الذين يريدون استعمال بعض الوقائع التاريخية والتصريحات والردود المتضادة لتوجيه دفة الأحداث نحو اتجاه آخر يخدم مصالحهم الآنية ويساعد في إحكام الأقفال على قضايا أخرى أكثر أهمية وأشد ارتباطا بما نعيشه في جزائر اليوم.. كما أن الذين يريدون استغلال الجدل الدائر حاليا في إدانة الثورة بشكل كامل واهمون لأن أغلب الثورات على مدار التاريخ لم تعرف العصمة من الأخطاء والهفوات وحتى الزلات الكبيرة، بل إن كثيرا من الثورات انتقلت في مراحل لاحقة إلى التآكل الداخلي حين أقصى رفقاء السلاح والكفاح بعضهم البعض جراء التنافس والضعف والأهواء أو عبر مؤامرات ودسائس الأعداء. إن جميع جوانب ومراحل الثورة التحريرية الكبرى، وتاريخ الجزائر الحديث عموما، في حاجة إلى جهود أعمق وأكبر تشمل الدراسة والبحث والتوثيق، وهذه الجهود في حاجة أشد إلى الصدق والتجرد والشجاعة الكاملة، ومن حق كل من ساهم في صنع تاريخ الثورة أن يدلي بشهادته وأن يتحدث ويخرج من مخازن الذاكرة ما شاء، ويعرضها على من يشاء وكيف يشاء، ومن تعسر عليه ذلك جهارا نهارا وخشي التشهير أو الملاحقة فما عليه سوى ترك شهادته للتاريخ عند جهات أمينة وستخرج إلى العلن بعد وفاته وهو في أمن وأمان من تبعاتها. ومع كل ما سبق تظل أولوية الأولويات هي مصير الأجيال الحالية والقادمة.. فارحموا هذه الأجيال يرحكم الله، وأخرجوا الآن من الحقائق والشهادات ما يساهم في دفع عجلة التنمية الحقيقية إلى الأمام، ويساعد على حل ألغاز ذلك العدد غير اليسير من القضايا والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها البلاد وما زالت مقيدة ضد مجهول. فمرحبا بكل حديث عن الماضي يقربنا إلى معرفة السبب الكامن وراء ما نحن فيه من تخلف عن أقراننا، لينطلق قطار الجيل الجديد بكل تجليات الحضارة والمدنية المعاصرة بعيدا عن الحساسيات والحسابات والتوازنات التي عرفتها الثورة وحكومات ما بعد الثورة.