حياة الرفاهية والدلال كانت بادية عليها ولا تخطئها حتى النظرة العابرة.. أصناف المأكولات التي يتفنن في إعدادها الطّهاة تسرح فيها وتلهو كما تشاء عندما يحين المساء.. وبلغ بها كبرياء الشبع درجة صارت معها تترفع عن مجرد الاقتراب من عظم أو جلد، فهي تفضل لحم الدجاج الخالص. القصة حقيقية وبطلتها قطة مشردة وجدت طريقها إلى باحات مطعم سكن جامعي محترم ببلادنا.. زاد حجمها عندما احتكرت "قمامة" المطعم فصارت أشبه بكلب صغير، ولم يصدق محدثي، الطالب الجامعي، أن تلك القطة لا تقبل أكل الجلد ولا تجهد نفسها مع العظم وتلتفت فقط نحو قطعة اللحم الخالصة التي تُرمى إليها وهي تتجول بين الطاولات.. لكنه صدّق في النهاية عندما عاين "التجربة الناجحة" على يد مضيفه في ذلك المطعم الجامعي. الحديث عن الطعام الطيب "المسفوح" في "مزابل" بعض الأحياء الجامعية يدعونا بداية إلى أن نبكي على أنفسنا جميعا لأن مثل هذه الظواهر نذير شؤم بامتياز، فالنّعم تدوم بالشكر ومستقبل الشعوب يُصان بالتدبير الجيد في شؤون المعيشة والاقتصاد، وعندما يتعالى قومٌ على الشّكر، ويعيثون فسادا فيما بين أيديهم من خيرات؛ فسيطرق أبوابَهم الحرمانُ ولو بعد حين. الوجه الآخر للمأساة يكمن في تلك الميزانيات الضخمة والإدارات الفخمة والموظفين وطواقم الطبخ والخدمة والنظافة في كل الأحياء والمطاعم الجامعية في بلادنا، ومع ذلك لا تتوقف صفحات الجرائد عن نقل أخبار المصائب الصحية التي تتسبب فيها المطاعم، ومن ثم الاحتجاجات والإضرابات وبيانات التنديد التي يطلقها الطلبة هنا وهناك. آخر الحوادث الكبرى في هذا السياق ذلك "الخطأ" الذي هزّ الجميع عندما تسممت 400 طالبة بأحد الأحياء الجامعية بقسنطينة.. التسمم كان جماعيا بطبيعة الحال، واستدعى علاج ذلك العدد الهائل يوما كاملا تناوبت فيه سيارات الإسعاف على نقل الطالبات إلى المستشفيات. والسبب وراء تلك الكارثة، حسب مسؤولين في الإقامة الجامعية، هو الافتقار التام لأدنى شروط النظافة والمعايير الصحية، و"طريقة التحضير الكارثي" للوجبات والأطباق التي تُقدم للطالبات. إقامة البنات تلك والحادثة المأساوية ليست إلا عيّنة فقط، أو هي القطرة التي طفت وظهرت وصنعت الحدث، فمؤكدٌ أن ما يحدث في أحياء طلابية أخرى مُؤرّق أيضا ويدعو إلى التحرّك العاجل، خاصة أن فاكسات الجرائد الوطنية لا تكاد تتوقف عن استقبال بيانات التنديد والتهديد الطلابية. أحد الاتحادات الطلابية طرح فرضية أن تكون موجة التسممات التي شهدتها عدة جامعات مفتعلة لضرب استقرار الجامعة دون أدنى اهتمام بصحة ومصير الطلبة.. وإن صحت هذه الفرضية فإننا أمام صنف من الناس لا تهمهم إلا مصالحهم الضيقة ويستدعى الأمر عندها تحركا عالي المستوى لتطهير الإدارات الجامعية من أمثال هؤلاء "الدخلاء".. وتنظيم طلابي آخر انتقد عدم مراقبة المواد الغذائية التي تدخل المستودعات الجامعية وقال "إن معظمها يتميز بانتهاء الصلاحية". وتنظيم آخر تحدث عن استخدام سيارة الإسعاف الوحيدة في إقامة جامعية لنقل المواد الغذائية من المطعم إلى خارج الإقامة.. استخدام غير شرعي لنقل غير شرعي. المطاعم الجامعية تعتمد على مجموعات من المتعهدين أو المقاولين الذين يدخلون المناقصات ويفوزون بها، وفي ظل استشراء الفساد، الكثير أو القليل حسب اختلاف التقديرات، فإن العملية برمتها تصبح محل شك في أحيان كثيرة، فعندما يتفق المتعهد أو المقاول مع المسؤول المباشر، أو يضمن من يتستر على ألاعيبه، تحدث الكوارث المالية، ولعل أغرب ما سمعت في هذا الشأن ما يُتداول في إحدى المدن الجنوبية أن عرسا تم تموينه بالمواد الغذائية الأساسية من المطعم الجامعي.. إنها عملية تلاعب بسيطة أثناء التسليم والاستلام وحصر الكميات المخزّنة، وليست في حاجة إلى مؤامرة خطيرة على شاكلة الخليفة وأقرانه. عامل عادي في مطعم جامعي باح بسرّه، وقد لا يعتبره سرّا، عندما تحدث لطالب جامعي صديق له.. قال إنه عندما يخفف كمية السرقة اليومية يأخذ معه فقط ثمانين بيضة.. نعم 80 بيضة في اليوم الذي يشعر فيه بصحوة ضمير وحسّ وطني وخوف من الله، أما في الأيام الأخرى فحدّث ولا حرج، فربما يموّل دكانا بالبيض والمعلبات التي تصل المطعم الجامعي. إن وجبة الغداء أو العشاء في المطاعم الجامعية، حسب البعض، تقدر رسميا ب 180 دينارا، ويؤكد الكثير من الطلاب أن ما يأكلونه خاصة في إقامات شمال البلاد لا يساوي في الغالب 100 دينار، وبعملية حسابية بسيطة ندرك حجم الميزانيات والفروق وهوامش "التحويل" المحتملة نحو الجيوب والحسابات الخاصة. يدرك الجميع أن ميادين أخرى تعاني المشكلة ذاتها، لكن قطاع الطلبة هو الأخطر على الإطلاق، فهؤلاء الشباب هم قادة المستقبل، وترقية هذا القطاع لا تحتاج إلى معجزة، فعندما تتوفر الإرادة يمكننا حل أزمة "الأكل" نهائيا عبر الخوصصة الكاملة مثلا.. فما المانع من إعطاء الطلاب منحا كافية، بشكل شهري أو حتى أسبوعي في ظل التطور التكنولوجي وانتشار خدمات بطاقات السحب الذكية.. نعطي الطالب القيمة الحقيقية لطعامه وشرابه الذي يُصرف له من أموال البترول، ونعدّ له المناخ الذي ينمّي فيه روح المسؤولية، ونفتح أمام مطاعم الخواص فرصا متكافئة بدفتر شروط واضح وحازم.. وإذا بذّر بعض الطلاب بعد ذلك أو أساؤوا التصرف فلا عذر لهم لأنهم في سنّ المسؤولية.. ولنضع نصب أعيننا أن شبابا في سن الخامسة والعشرين صاروا رؤساء أقسام في جامعات غربية محترمة.. أما نحن فما زلنا لا نأتمن الطالب حتى على طعامه، ونواصل "غشّه" عندما نعوّده الأكل بتذاكر لا يكفي سعر الواحدة منها لشراء حبّة حلوة.