ما الذي جعل الغرب يكذب قليلا ويتقدم كثيرا ونتصنّع نحن الصدق دائما ونتخلّف كل الوقت؟ في شهر أفريل يتصارع يومان : يوم للكذب وآخر للعلم، يستفيد أبناء الغرب من اليومين ونخسر نحن كل الأيام تقريبا! يميّز يومان متناقضان شهرَ أفريل، ويجعلانه شهرا لتعايش المتناقضات، ففي الفاتح منه شرّع بعض الناس المترفين الكذب وأقروه بينهم وبين الآخرين، وتبادلوه بشكل يكاد يخلو من التقزز الذي يحدثه خلال سائر الأيام، ومن النفور الذي يصيب صاحبه من قبل محيطه، ولا يجد"المتحدثون"حرجا وهم يبحرون في الكذب حتى ولو أدى إلى نتائج سلبية على الفرد والجماعة والمجتمع ككل، حدث ذلك في الغرب المتشبع بثقافة الشذوذ والتطرف في الحريات الفردية، ومنه صدّر لنا هذه السلعة الفاسدة التي طوّرها قوم منا وعمّموها إلى أن أصبحت علامة مسجلة بهم وبنا جميعا للأسف، وفي السادس عشر من نفس الشهر نحتفل بيوم العلم، ولا أدري لمَ ربطناه في الجزائر بوفاة المصلح الكبير الإمام عبد الحميد بن باديس الذي حارب كل أنواع الكذب البيّن منه والمستتر، ورفع راية العلم في مواجهة آفة الاحتلال وأحلافه ودعاته، ولم تمنعه الحدود ولا الحواجز التي أقامتها فرنسا لعزل الجزائر عن محيطها الطبيعي الجغرافي والديني والثقافي من الجهر بحق الأمة العربية والإسلامية كلها في الحرية والتقدم ، معتبرا العلم أهم وسائلها وأنبلها وأنجعها، وقد تساءلت في مقال سابق من عام مضى عن السبب ولم يجبني أحد، سواء ممن يكونون شهدوا بداية التأريخ لهذا اليوم، أو ممن ساروا بعدهم بهذا اليوم إلى مجاهل حوّلوه فيها إلى مبكى يراقص فيه هواة السياسة أدعياء الثقافة، في لوحة مضطربة تحمل أكثر من إحباط وسقوط. الغرب خصص يوما واحدا للكذب من مجموع أيام السنة، ليروّح ربما عن النفس المنغمسة في دنيا العمل المتواصل على كل الجبهات، فأبناؤه-حكاما ومحكومين- يصدقون طول العام في أقوالهم وأفعالهم، وهو ما جعلهم يقيمون دولا قوية ويشيدون حضارة بالعة لما عداها، وقد بلغت من الرقي حد السطو على الآخر وإسقاطه أرضا ولو أدى إلى تدميره وإزالته من على كوكب الأرض، في حين أننا نؤكد في يوم الكذب العالمي أننا كذابون كل العام أينما كان موقع عملنا وفي معظم معاملاتنا ووعودنا وأخلاقنا، والدليل هو هذه المجتمعات الهشة التي أصبحت طاردة لأبنائها من مختلف الأعمار والمستويات والمذاهب، واستطاع الغرب أن يبني بالعلم قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية وثقافية جبارة، أطاحت بغيرها في حركة انقلابية غيّرت ملامح التاريخ البشري لصالحها، بينما كان تعاملنا مع العلم تماما كما يتعامل المرضى والشواذ مع المومسات المرميات في شوارع المدن التي يتداخل ليلها بنهارها لاصطياد بقايا رجال، حتى انحسرت المعرفة إلى مستويات سحيقة، وجف الإبداع إلى درجة التصحّر، وتلاشت روح المبادرة بكيفية تنذر بانهيارات أخرى قادمة لهذه المجتمعات الكذابة . إن الإنسان – وهو الذي يصنع التاريخ- عليه أن يعيد تقويم هذا التاريخ باستمرار، لينسجم مع متطلبات واقعه وأحلام مستقبله، وكي لا يصبح في غفلة منه عبدا لما صنع، فإذا كانت الأغلبية المنتمية إلى حضارة الشرق تستهجن أن يبدأ شهرها بالافتراء المتواتر، وترفض أن يصبح شعبة من شعب الثقافة العربية الإسلامية، فإنها مطالبة بإعادة بناء علاقتها بالعلم الذي يبدأ بالتعلم ولا ينتهي عنده، واستثماره كأرضية لا بديل عنها لأي إقلاع علمي أو اقتصادي أو تكنولوجي أو حتى عسكري منشود، وان ما عداه ليس إلا أرضية مغشوشة لا يمكن الرسوّ عليها بأي شكل من الأشكال، وعندما نفعل ذلك سترجع تلقائيا إلى هذا الشهر قدسيته بين الشهور، ويتغلب جانب العلم فيه على جانب الكذب، أو قد نؤجله إلى ما بعد الانتهاء من العمل، وننتصر للشيخ ابن باديس الذي نحي غدا ذكرى" وفاته"التاسعة والستين على مسيلمة العصر الذي تجدده فينا حالة الكذب الدائمة التي أخشى أن تصبح مزمنة، وذلك أضعف الإيمان ...