كنا ضيوفا على مائدة أحد المثقفين، وفجأة ظهر على شاشة الفضائية (الحرة) الدكتور أمين الزاوي مع محاوره، وهتف الكل صاحب جواهر التي كان لها الصدى الطيب في النفوس، تابعنا الحوار من البداية إلى النهاية، وخلصنا إلى نتيجة أن لا أحد منا قرأ للزاوي، ولا أطلع على أعماله الأدبية الرائعة باستثناء الحصص المذاعة، فأصبت بالدهشة والاستغراب، وقلت نحن العرب لا نقرأ ولا ننتج.. وإنما نأكل وننجب.. ونتباهى بأبنائنا المعذبين، قال محدثي: لماذا؟ قلت معقبا إذا كان أمين الزاوي واحدا من الأدباء الكبار ومن أعلام الرواية العربية، لم نقرأ له! وسبقنا إليه غيرنا فكيف نقرأ لبقية كتابنا ومبدعينا؟ فالنقاد والقراء في بيروت كانوا على اطلاع، وأنهم استطاعوا أن يصلوا إلى انتاجه، ويتوغلوا في ثنايا أفكاره، ويتعرفوا على البيئة التي نشأ فيها والمجتمع الذي كتب له، بل وتعرفوا على ميوله واتجاهاته، ونحن كمثقفين أبناء الوطن لم نطلع على أعمال هذا المبدع، فبماذا نبرّر غياب أعماله عن الوطن وعزوف القراء عن المنتوج الأدبي خاصة؟ هل نحن نكتب للنخبة؟ أم نصنع هذه النخبة؟ أم أننا نكتب للآخر؟ لكن من أجل ماذا؟ قال محدثي: قرأنا عن الزاوي ولم نقرأ له، فرواياته لم تكن في المتناول، طبعت هناك، وترجمت، ولا ندري ان كانت متوفرة في نقاط البيع؟ قلت يا سيدي هذا عذر أقبح من ذنب كما يقال، وذاك هو واقعنا الثقافي المتردي، قال: روايات الزاوي نقد لاذع للمدنس، استعمل فيها التراث وصبّ جام غضبه على أوضاع اجتماعية، وثقافية، وفكرية، وخصّ الواجهة الدينية بشيء من النقد وليته فعل!! هو يرى بأن العالم ليس مسطحا يؤمن بتمجيد الماضي، ولا يلتفت إلى الحاضر، انه يرى بأن العمل الروائي نوافذ للنقد، قلت: ولكنه استعمل الدين بشكل مسيء وهذا يجلب له وللقارئ متاعب، قال: الأستاذ الزواوي: يرى بأن مفهوم الرقيب يبتعد عن الحقيقة، إذ يرى أنه محق والآخر ضال، وفي اعتقاده أن هذا الرقيب جاهل، جامد وليس من حقه أن يحكم على الأدب، فلكل مجاله، فلا يحق لهؤلاء أن يحولوا الدين بنكا يوظفون ما فيه لأغراض سياسوية، قلت ولماذا نستعمل الدين لجلد الذات، والإساءة إلى الآخر، ولا نجادل بالتي هي أحسن، أليس هذا عنفا أم هو التعنيف؟ نحن ندعي معالجة أوضاع متردية بما يسيء للأمة ويحرض على العنف، ارضاء للآخر، ونغذي فيه النزعة العدائية وهي قائمة لا محالة.. هم يسيؤون إلى نبينا، ويرتكبون الجرائم في حق شعوبنا بغير وجه حق، فلماذا لا يتحدثون عن جرائمهم، إنهم يبررون اساءتهم وحربهم على الإسلام بحرية الرأي، هناك يا سيدي الكريم عوامل وأسباب تحيط بالعملية الابداعية، تتطلب منا جميعا تسليط الأضواء الكاشفة عليها ولا نبقى متفرجين، المبدع من حقه أن يقدم أفكاره ووجهة نظره بالكيفية التي يرى، وعليه أن لا يبتلغ الحقيقة أو ييستعمل ما لديه من امكانات لطمس أفكار الآخرين أو استعمال ما يغضب القراء ولا يبالي بوجودهم ولا انتمائهم وحساسياتهم، ونرضي من لا يرضى عنا جميعا من أجل الوصول إلى المبتغى، والغيابات لا تبرر في كل الأوقات والأحوال الوسيلة، قال: قراءات الأستاذ الزاوي تفكيكية لواقع معيش، ولكنها مشحونة بانفعالات حادة تريد إنهاء صراع ظل قائما، وبكل الوسائل حتى وان أفضى إلى جلد الذات جلدا مبرحا، إذ يرى بأن في المجتمع من يصادر الحريات، وأن هذه العناصر ارتدت إلى رذائلها الداخلية تأكل منها، وسعت إلى كبت الحريات ولكن لم يسأل لماذا وقع الانحراف؟ نحن نشهد تحولات كبرى، ونشعر بفراغ وبغياب رهيب، وفي ذات الوقت الكل يلهث وراء المادة، فحدث التطرف والغلو والاستحواذ والانغماس في المفاسد وهذه وتلك أفسدت الذوق وسلبت العقل احدى ركائز الفكر، قلت: مهلا.. الرواية عبارة عن عواصف فكرية راعدة ولواعج، وإذا قدمت بشكل عبثي ساخر، وكانت نماذجها البشرية سيئة عابثة وبشكل لافت، فماذا يحدث؟ حقيقة الحياة مترعة بالنماذج البشرية السيئة وحبلى بالحقائق المغيبة، قال: أعرف بأن الرواية نوع من الجنون أو الهبل كما قال الأستاذ الزاوي، بل هو درس معجون بأفكار متصادمة، وليس أخلاقا ولا وعظا ولا إرشادا وإنما هي مسار في متاهات، قلت المتهات تعني الابتعاد عن الواقع والتخلي عن المسؤولية، وتعني شيئا آخر أي عدم توخي الموضوعية، قال: الرواية خطاب ذو أنفاس قوية يعده المبدع بعناية وصبر وذكاء لمخاطبة الجمهور المتلقي ذي المشارب المتنوعة والاتجاهات، قلت فهل المبدع والحالة هذه يعرف من يخاطب؟ أم يجهل أو يتجاهل هذا المخاطب؟ أم أنه يخاطب النخبة؟ قال: هذه إشكالية أولى.. قلت الاشكالية الثانية تتمثل في وضوح الرسالة وملاءمتها للأذواق والقناعات وللآداب العامة، لكن هناك عيوبا ومعوقات لم نتفطن لها، هي التي جعلت العملية الابداعية متعذرة الوصول، صعبة المنال، عصية الفهم، سيئة الطرح، فنحن نكتب لمجتمعه، ومن أجله نعيد تشكيل بعض المواقف كنماذج سلوكية ليتخذ المتلقي منها موقفا ورأيا ويرسم مشهده الخاص، فالكاتب يكتب ومن حقه أن يقول ما شاء، ولكن عليه أن يلطف أحكامه وأن لا تكون ألفاظه قصفا عشوائيا يحدث الفزع، إذ العبارات النابية الحاقدة تحريض، أجل.. انها تحمل اعصارا مدمرا وان أسوأ الأحقاد ما كان مسيئا للعقيدة، مستهترا بأدبياتها، فالكاتب يكتب ولا ينطلق من فراغ هو ابن بيئته، وهو على بينة من ثقافة مجتمعه، ومن واقعه، وحتى ان لم يكتب للأخلاق فهو متخلق يزرع الفضيلة بله يصنع الوعي في جموع الوعي، إذ المثقف المتخلق المتحضر لا يعمم الأحكام ولا يدين الآخر اداته مطلقة فهو ملتزم بالموضوعية، حتى وان كان مقصوفا، ضحك محدثي كثيرا وقال: العملية الابداعية بنائية وليست هدمية، ترنو إلى إعادة تشكيل الواقع بما يخدم الواقع ويثريه، فالمبدع ينزل كالمعلم تماما إلى مستوى أذواق المتلقين المتوسطين ليرتقي بهذا الذوق لغة وفكرا ووعيا وتألقا وانفتاحا على العالم، وبطبيعة الحال تكون أفكاره طي الحوار السردي، يشتم منها رائحة التاريخ والسياسة والدين والاصلاح وحتى التطرف والغلو، فلا يقصي أحدا ولا يلغي كائا من كان، قلت: المبدع العربي والجزائري خاصة يعيش أزمة ثقة بالنفس، لذلك تشكلت لديه عدوانية مطلقة، تجده يجر متاعبه وأثقالا مع أثقاله، بل الهموم كلها ملتصقة بقلمه يريد التعبير عنها ولا يفلح في ابعادها لأنها من يومياته المتعبة، قال: هذا تشاؤم، وهروب، قلت: هي الحقيقة، المبدع يكتب ولا يعرف لمن يكتب أحيانا؟ نجده غاضبا على مجتمعه وعلى القارئ في ذات الوقت هو لا يبحث عن جمهور قارئ، جل المبدعين إلا من رحم ربك يتعففون، يبحثون عن الآخر، يسعون إلى نشر أعمالهم خارج الوطن، ولكن لا يفكرون في طرق ومسالك توصلهم إلى القارئ الجزائري المتفرج على نفسه، المستعمل كفرجة لامتاع الآخر.. إن كبار كتابنا يكتبون في فرنسا وبلغة فرنسية، وفي أحسن الأحوال تترجم هذه الأعمال ولكنها لا تصل، تبقى بعيدا ولا ندري لمن يكتبون؟ فبغض النظر عن التوصيف السيء فإن جل المعطيات منتقاة من الحضارة الغربية، متشربة ببعض أفكارها، محفوظة في أوعيتها، في حين أن مشكلات مجتمعنا تختلف عن تلك البيئات مع هذا نحاول تلبيس المجتمع هذا الثوب الفضفاض المرقش ببعض العبارات الناقدة وليتها كانت نقدا بنائيا، إنها تحرك الأوجاع بدلا من تضميد الجراح، ولا تعطي القارئ شيئا سوى اليأس والشتائم. إن مشكلات مجتمعنا تختلف كل الاختلاف عن تلك التي نروج لها، نحن لا زلنا نعيش الماضي، ونرتع في فوضى الجهل والتبعية العمياء، نتجاهل مقوماتنا الأساسية وثوابتنا، عاجزين عن تكييف واقعنا وفق أطر حضارية وحداثية، واسعاف الإنسان المتضرر جدا الرافض المرفوض، نحن نبحث عن مشروع مجتمع جامع لأصالتنا وانتمائنا، فالإنسان الجزائري ما يزال يسأل من هو؟ وقد تلقى الإجابة الصريحة من العلامة ابن باديس عليه الرحمة والرضوان: (شعب الجزائر مسلم * وإلى العروبة ينتسب). وفي ذاك الانتساب ربط بالجذور، ولقد رسمت معالم أمتنا ثورة التحرير وكرست ذلك في مواثقنا، إن رؤية المبدعين ونظرتهم المستقبلية تختلف عن رؤية القراء، لتعدد مناهلهم، من عادات وتقاليد ضاربة في عمق حياة المجتمعات العربية، والتي ما زلنا نحتفظ بها، إذ المبدع انسان له مشاعره النبيلة، وله بعد نظر، ويملك أدوات التعبير ومن حقه أن يكون فاعلا مهتما بقضايا أمته ومجتمعه، يغني للحياة، يحرك الفكر والوجدان والمشاعر، ويجهد نفسه ليفيد أهله وليجلب لعمله الابداعي قراء أوفياء ذواقين متطلعين للحياة الكريمة، فقال محدثي: وقد استوى قائما، ماذا تقول عن الزاوي؟ قلت الدكتور أمين الزاوي أديب كبير وروائي عملاق، نجله ونقدره ونضعه في خانة الأدباء الكبار ونسميه نجيب محفوظ الجزائر، لغته راقية، كلماته راعشة تنبض بالحياة، تحرك المشاعر، وهو ينجح إلى أبعد الحدود مع جمهوره الجزائري في اختراقه الأسوار الخرسانية ويوصل الصوت التحديثي ولا أقول الحداثي، مبددا ظلمة الجمود، وما أحوجنا لكتاب صارمين صادقين مثله يتميز عملهم الابداعي بالجرأة والمواقف وصدق المواجهة من أجل التغيير ولكن، قال محدثي: ولكن بشرط أن لا نشن حربا على القيم.. أمين كان ساخرا يستعمل ألفاظا جارحة وهو يرى في الذي يخالفه رأيا قاسيا، ونعتقد أن العنف اللفظي يولد العنف، فلماذا نلجأ إلى هذه الأساليب، قلت: أنا لم أقرأ للأستاذ الزاوي وقرأت عنه واستمعت له كثيرا وقدم لنا أعمالا نسعد بقراءتها إن توفرت، حتى وان كانت رؤانا ومواقفنا تختلف، الزاوي جعل أبطاله يركبون الصعب من الابل، وغاص في رمال الحقيقة ربما الزوابع التي أثارها لم تكن مقبولة من كل القراء، قال: الكتابة بهذه الجرأة تستوقفنا ولا يمكن، أن ''تزر وازرة وزرى أخرى''؟ قلت: من حق الكتاب والنقاد أن يدلوا بدلائهم، فلماذا هم صامتون؟ قال: في الصمت فوائد..! قلت: فليصمت الذي لا يوظف قلمه ولا فكره، لكن بشرط أن لا يحرك لسانه لاهثا في غير طائل، قال عرفت المقدس ولم أعرف المدنس؟ قلت ضاعت الحقيقة في عزوف القراء عما يكتب وما ينشر، وضاع القارئ في متاهات الألفاظ البراقة والمصطلحات الرنانة.. وصار أدباؤنا يكتبون إما لأنفسهم أو لغيرنا، فلذلك زهد القارئ في المقروء، ولم يعد يعرف المقدس من المدنس.. ولا المذكر من المؤنث.. ولا المخلص من المفلس.. ومع هذا فلابد من مصالحة مع الذات، إذ الجزائر في حاجة إلى أبنائها مجتمعين وإلى كتابها متوحدين فاعلين داخل الوطن أولا ثم خارجه... وعلى اللّه قصد السبيل.