قرأت ذات يوم خبرا، نشرته جريدة سيارة، لا أتذكر الآن كل تفاصيل صياغته، لكن فحوى الخبر أن صحافية كانت بصدد التوقف بسيارتها، في مكان التوقف فيه ممنوع، ومن سوء حظها أن شرطيا كان يراقبها من بعيد، وبطبيعة الحال تقدم منها الشرطي ومنعها من التوقف، لكن الصحافية أشهرت في وجهه البطاقة المهنية، وأصر الشرطي على موقفه في منعها، وأمر صاحبة السيارة أن تغادر ذلك المكان، فخرجت علينا الصحيفة بهذا الخبر، وفيه أن الشرطي لم يحترم الصحافة! وأذكر أيضا أن صحافية أخرى، قصدت مصلحة الاستعجالات بالمستشفى ليلا، وكانت تشكو أما في معدتها، وفحصها الطبيب، وتلقت العلاج المسكن للألم، لكن بالها لم يرتاح إلا بعد نشرت في الصحيفة التي تشتغل لها، تتحدث عن الإهمال والتسيب في تلك المصلحة، وبعد التحقيق تبيَّن أن الكلام المنشور عار من الصحة، وكل ما في الأمر أن ملاسنة حدثت بين شقيق الصحافية والفريق المعالج، ولأنها أرادت الانتصار لأخيها قامت بنشر ذلك الخبر! هذه عينات بسيطة، لكنها تنم عن سلوك، يقع فيه صحافيون، والواقع أنه ليس لدي إحصائيات بعدد هذه المخالفات، ولا أستطيع بالتالي أن أحدد حجمها، كأن أقول بعض الصحافيين أو أكثر الصحافيين يقعون فيها، وبالتالي نفضل صيغة النكرة، ونقول يقع فيها صحافيون. ولسنا هنا بصدد الحديث عن مثل تلك العينات التي أوردناها، لأنها هينة وبسيطة وغير ذات قيمة، وإن كان فيها ظلم لأشخاص، وفيها مؤشر على تعدي على مهنة الإعلام نفسها، لكن ما يعنينا هو عينات أكثر دلالة، ومنها أن صحافيين بأسماء كبيرة، يكتبون في قضايا جد حساسة، وبأسلوب يبدو للقارئ العادي قمة الجرأة والشجاعة، لكنهم يغضون الطرف ويسكتون عن قضايا أخرى، لا تقل أهمية بل قد تفوقها أهمية، وكلامهم وسكوتهم في أوقات بعينا، وتخرس ألسنتهم ويجف مدادهم في أوقات أخرى. هؤلاء لا يختلفون عن نموذج الصحافيتين، لكن مع الفارق أن الصحافي المبتدئ، يقنع بأن يلفت الأنظار إليه، بأنه قادر على أن يؤذي بقلمه، وهذا مسلك قديم نهجه شعراء الهجاء، فكان الشاعر يهجو من يقابل، فإذا شاع خبره بين الناس، دفعوا له المال كي يصونوا أعراضهم، وحدث أن ثاني الخلفاء عمر بن الخطاب، اشترى أعراض المسلمين من الشاعر الحطيئة، فلما لم يجد من يهجو هجا نفسه، إذ مر على بئر فرأى وجهه، فقال: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء، فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجها، قبح الله وجهه أما الصحافيون "الكبار" فلا يعنيهم هذا الفتات، ولا ينزلون إلى هذه الدوائر السفلى، لأن أعينهم تتطلع هناك على الموائد العامرة، والسهرات الحالمة، والأسفار الممتعة، والأرصدة المنتفخة، لا يحتاج أحدهم أن يتداوى في مستشفيات العامة، ولا أن يتوقف في الأماكن الممنوعة، ولا أن يخاطب الشرطي ولا الطبيب، ولأن المثل السائر يقول: "مدد رجليك على قدر سروالك"، فهم يمددون أرجلهم حيث يشاءون، لكن كل شيء بالميزان الدقيق، والحساب المضبوط، فهم أتقنوا فن إشارات المرور الإعلامي. إن حرية الصحافة تتحقق، يوم يحرص الصحافي على استقلاليته، فليس مدينا لأحد إلا لضميره ولقلمه، يوم يستطيع أن يتجاوز الانتقائية في التماهي مع الأحداث، فالانتقائية تخفي وراءها تحقيق مصلحة شخصية، وتعني قبض ثمن مسبق، فتخرج الكلمات مدوية قوية لكنها فاقدة للروح، لأن صاحبها ضحى بروحها، وتبدو كسراب الماء في الأرض القاحلة، والسراب لا يطفئ ظمأ و لا يروي عطشانا، إنه سراب زائف وحسب، سرعان ما يكتشف الناس زيفه. الكلمات التي تحدث التغيير، ويحترمها الناس وإن لم يرضوا عنها، هي كلمات تتغذى من عقل يرصد الحقائق وينتصر لها، وقلب يخفق مع القيم الإنسانية الكبرى، ووجدان شفاف يأبى على صاحبه من أن يبيع قلمه، فالحبر يسيل بأمر ذاتي من صاحبه، فيقول الحق ولو كان مرا، ويصادق ويخاصم بحسب تلك القيم، لا استجابة لتصفية حسابات شخصية، أو تأجيرا لأصحاب نفوذ ومصالح، تماما كما تؤجر بعض النسوة أرحامهن، فيتغذى الجنين من دمها، وتقبض ثمنا بخسا يحرمها متعة العاطفة ولذة الأمومة.