عادت حرب الخنادق إلى سابق عهدها في بعض الأحزاب، بل إن نذر المعارك المقبلة التي بدأت تلوح في الأفق تبشر بانقسامات وتفتت لعدة تشكيلات سياسية وبصفة لم نشهد لها مثيلا من قبل، وبين من يعتبر الظاهرة طبيعية في بلد تبقى تجربة التعددية فيه قصيرة في حساب السياسة طبعا، وبين من يراها شاذة وسلبية، يبقى الواقع بكل تجلياته ينبىء بإمكانية أفول نجمة أحزاب كثيرة، وربما ظهور أخرى من العدم أو من رحم تلك المؤهلة لدخول المقابر السياسية• صحيح أن الطبقة السياسية في الجزائر لا تزال في مرحلة التشكل خاصة وأن الأزمة المتعددة الأوجه، السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد منذ بداية التعددية، لم تسمح بوجود مناخ سياسي ديمقراطي ملائم يجعل التشكيلات السياسية تولد وتنشأ بصفة عادية وطبيعية، لكن المهم في تقديرنا والذي حال دون تحقيق الاستقرار المطلوب يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الممارسة الديمقراطية داخل جل التشكيلات الحزبية، وإلى الممارسات السلطوية الأحادية التي حولت أغلب الأحزاب إلى أجهزة مغلقة لا مجال فيها للتداول السلمي على مناصب القيادة• وكل مرة تتجه أصابع الاتهام إلى السلطة، وما أن يدب خلاف داخل حزب ما إلا وصاحبه حديث عن جهة في الحكم يقال إن لها مصلحة ما في الإطاحة بهذه الشخصية الحزبية أو تلك، وقد سمعنا الكلام الكثير عن "المؤامرة" فيما حصل داخل حركة الإصلاح الوطني بعدما شق "التقويميون" عصا الطاعة على زعيمهم جاب الله• ونفس الكلام قيل أيضا عن قادة النهضة لما أطاحوا بجاب الله، وكلما ظهرت حركة تمرد داخل أي حزب أو برزت "تصحيحية" إلا وظهرت أطروحة المؤامرة من جديد وكأن السلطة لا شغل لها إلا قادة الأحزاب وترتيب الانقلابات ضدهم• لسنا هنا لندافع عن السلطة أو تبييض ساحتها من كل الانقلابات التي شهدتها الأحزاب السياسية، لكن ومن باب الواقعية يجب التسليم أيضا بأن أغلب التشكيلات السياسية تحمل بذور فنائها بداخلها• فغياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب وتسلط الفردانية وغلق الأبواب أمام الإطارات الشابة تعتبر من بين أهم العوامل التي تتسبب في هدم الأحزاب، وهو بالضبط ما حصل لحركة النهضة وحركة الإصلاح الوطني في عهد جاب الله وعهد يونسي أيضا، وتهدد بتفتيت حركة تواتي والأرسيدي وحتى الأفافاس، وربما نفس الأسباب تقف وراء الكارثة التي تعصف بحركة حمس• فأغلب هذه الأحزاب أسست خطابها السياسي على انتقاد الأفلان، لكن بعد سنوات تبين بأن لا أحد من هذه الأحزاب استطاع أن يصل إلى المستوى التنظيمي للجبهة، بل وفشل حتى في تبني خط ديمقراطي قائم على التداول على المناصب بالشكل الموجود في الأفلان• وإذا كان سر قوة الأفلان يكمن في الديناميكية التي عاشها دوما داخل صفوفه، فإن سر ضعف العديد من الأحزاب خاصة تلك المتواجدة بالمعارضة، والتي لم تبلغ حتى مستوى جماعات الضغط، يعود إلى فشل قياداتها في تبني هذا الأسلوب وتشبثها بالمناصب لمدة فاقت عند البعض العشرين سنة• وما من شك أن ظاهرة تفتت الأحزاب لا تخدم الممارسة السياسية في البلاد وقد تؤثر سلبا على أداء المؤسسات المنتخبة خاصة على المستوى المحلي مما أوجد ظاهرة الانسداد الحاصلة في العشرات من المجالس البلدية• ربما كنا نلوم في السابق وزارة الداخلية لعدم تحمسها لمسألة اعتماد أحزاب جديدة، لكن ما الذي يمكن أن يحصل لو فتحت إدارة زرهوني الباب واسعا أمام كل مجموعة تريد تشكيل حزب جديد، فسوف نرى العشرات وربما المئات من ملفات طلب الاعتماد، مما سيؤدي حتما إلى زلزال عنيف يهز جل الأحزاب الموجودة•