بداية، تحية التقدير للتحرك القطري النشط لإنقاذ لبنان من وضعية ساهم في تعقيدها انحياز أطراف إقليمية لهذا الجانب أو ذاك، وهو ما كان وراء وضعية التشنج التي تصرفت بها عناصر لبنانية صبت النار على جمرات الأزمة الكامنة في البلاد، وخصوصا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي يتأكد يوما بعد يوم أن أطرافا أجنبية كانت المستفيد الأول منه. وربما كان من ضمانات فعالية التحرك القطري، الذي يبدو أنه حُسب بدقة ولعل هناك أضواء خضراء شجعته، أن اللجنة الوزارية العربية مشكلة من دول لم تنحز لأي طرف كان، وهنا تتجلي أهمية اختيار الإماراتوالجزائر لعضوية اللجنة (وقد كانت الجزائر جزءا من اتفاق الطائف حول لبنان) بعد أن ثبت أن أي انحياز في التعامل مع أحداث لبنان وأي محاولة خارجية لاحتكار التأثير على لبنان هي كارثية النتائج بما تستنفره من ردود فعل وما تفرضه من ولاءات، ونظرة إلى التصريحات تعطي صورة واضحة عن الأطراف الخارجية التي كانت تسعى لتطبيق إستراتيجيتها عبر العناصر المحلية في الصراع، ومن هنا، مثلا، فشل دافيد ولش بنظرته الاستعلائية وفشل كوشنر بتحركاته البهلوانية. ولقد كان هيكل (مع حفظ الألقاب) على حق وهو يُحذر السنيورة من خطورة الاعتماد على دعم قوى إقليمية ودولية لها مجال حركة لا يُمكن أن تتجاوزه، ونقل عنه قوله له أو عنه بأن مشكلته هي أنه يتصور نفسه رجلا استثنائيا في وضعية عادية في حين أنه رجل عادي في وضعية استثنائية. وبدا واضحا غياب دوره في قمة الدوحة رغم حضوره، وتأكد أنه، سياسيا، أصغر من التزامات الواقع المُعقد، فقد أشعل النار عندما استفز المقاومة بطرح قضية شبكة الاتصالات، ودورها حيوي في حماية سلاح المُقاومة الرئيسي، أي قيادات المقاومة نفسها، وهو ما تعامل معه حزب الله بخشونة تطلبتها وضعية الدفاع عن النفس، وأدت إلى تراجع قوى السلطة، وتظاهرها بمظهر المسالم المُعتدى عليه بعد مرحلة تنمّرٍ تجاوزت الحدود. وتردد تعبيرُ "الانقلاب" الذي استعملته سلطة رام الله إثر أحداث غزة، وبدا، وعلى ضوء تصريحات عربية معينة، أن من يُعدُّ مُعطيات الرأي الرسمي النهائي هو مصالح الأمن الداخلية، التي ترتبط بمؤسسات أمنية خارجية لها أهدافها التي لا تنسجم دائما مع الأهداف الوطنية العربية، وهكذا، وعبر معلومات زائفة أو مطبوخة أو موجهة يجرى توجيه القرار الإقليمي، سياسيا وبالتالي إعلاميا ودعائيا. ولا بد، لفهم التطورات، أن نذكر أنه، ومنذ نهاية حرب الثلاثة والثلاثين يوما، حاولت إسرائيل وكل المتحالفين معها العثور على صيغة للقضاء على حزب الله، بداية باتهامه بأنه يد سوريا وصوت إيران، وتوالت المناورات وتواصلت خلال المدة التي فشل فيها إثنا عشر اجتماعا نيابيا في انتخاب الرئيس التوافقي، وكان لا بد من خطوة جديدة يتم فيها تقزيم دور رئيس مجلس النواب بانتزاعه من خانة المُحايدين، والبحث عن طرف ثالث يُعدّ ليكون حكما بين المتنازعين، ومن هنا بدأ الغزل مع قائد الجيش. وانفجرت أزمة بيروت عندما عُرف أن الحكومة أصدرت قرارين يتعلقان بتنظيم جديد لشبكة حزب الله الهاتفية السلكية، والتي كان وجودها معروفا منذ سنوات وسنوات، يفرض عليه الحصول على تصريح حكومي بها، وأشعل هذا غضب حزب الله الذي لم يخف تحفظاته مسبقا على وزير الاتصالات، حيث اتهمه البعض بأنه أبلغ إسرائيل معلومات عن مواقع لقيادات المقاومة. وكان خطاب السنيورة بعد الانفجار تأكيدا بأن الأزمة كانت مدبرة بشكل بالغ الخبث لتوريط حزب الله، حيث قال حرفيا بأن القرارين الصادرين عن الحكومة، واللذين أشعلا نار الفتنة، لم يصدرا بعد، ولكنه في الوقت نفسه تمسك بإلزام حزب الله الحصول على ترخيص من الحكومة ليسمح له باستعمال شبكة اتصالاته، وكان هذا استفزازا لحزب الله الذي يعرف أن التحكم في الاتصالات ضرورة أمنية قصوى لحماية المُقاومة، ومن هنا جاء الشعور بأن حركة 14 آذار تلقت توجيهات محددة من حلفائها الغربيين، وقامت بخداع مناصريها في دول الجوار، وكان الهدف تشويه المقاومة، تمهيدا لتصفيتها عسكريا بمجرد الإمساك بشبكة الاتصالات التي تؤمن وجودها. وكان نصر الله واضحا وهو يُحدد أسلوب الخروج من الأزمة، ويختصره في تراجع الحكومة عن القرارين، ولكن خطاب رئيس الحكومة كان مزيجا من الكربلائيات والبلاغيات واستجداء العواطف الشعبية، ثم دعوة الجيش بشكل واضح ومباشر إلى إلغاء الاعتصامات التي يعرفها وسط العاصمة اللبنانية منذ نحو عام ونصف، وذلك بعد أن تلقى جماعة السلطة نصيحة ممن درسوا عدوان 1956 على مصر، فانسحبوا من المواجهة وقاموا بتسليم أسلحتهم للجيش تاركين له مواجهة قوى المعارضة بعد اتهامها بالقيام بانقلاب عسكري، وأصبحت الصورة أن السلاح السني والدرزي والمسيحي تسلمه الجيش، والدور على السلاح الشيعي؟. وهنا تتضح المؤامرة المعتمدة على خلط الأوراق، لأن ما استعمل في بيروت وفي الجبل من كل الأطراف كان أسلحة حروب الشوارع الخفيفة التي تملكها كل الأطراف، أما السلاح الرئيسي الثقيل لحزب الله فهو ما زال موجها للعدو الإسرائيلي، وهذا السلاح يجب أن يظل خارج كل الحسابات. لكن موقف المرجعية السنية كان مؤسفا، فقد حاولت تحويل الأمر من صراع سياسي إلى فتنة مذهبية، سيرا على خطى قيادة مرجعية سنية في بلد عربي آخر، عرفت بمواقفها الحمقاء، وهكذا يبدو الأمر كله تنفيذا لسياسات مستوردة، تصب في مصلحة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ومحاولة لتدويل الأزمة اللبنانية، وانتقاما لفشل أئمة » الاعتدال « في احتواء الموقف. ومن هنا كانت أجراس الشك تقرع بشدة داخل جمجمتي كلما سمعت تصريحات عربية تكرر، وأحيانا بالحرف الواحد، مخاوف بوش وأولمرت من إيران، في حين أنه، وكما يقول هيكل، عندما يتخوف العدوّ من خطر مُعين، فإن مصدر الخوف قد يكون ضمان أمن بالنسبة لنا، ومن هنا أتفق مع مقولة حمدي قنديل من أن تداعيات أحداث بيروت انتكاسة حقيقية للمشروع الغربي. ولعل تحفظ واشنطن على تكوين اللجنة العربية يندرج في هذا الإطار، وهكذا يجب أن نتوقع عملية انقلابية تحاول هدم كل توافق بنفس الأسلوب الذي تم بعد اتفاق مكة، وهو ما يمكن أ، يحول دونه هذا الإجماع الشعبي اللبناني على الترحيب باتفاق الدوحة. ولقد أكد هيكل في حديثه يوم الجمعة ما سبق أن أشرت له، من أن قوة الواقع اللبناني تكمن في استناده إلى شرعية التوافق والتراضي، وبالتالي فإن أي إخلال بهذه الشرعية قد يؤدي إلى انزلاقات لا يُمكن التحكم فيها، وتماما كما حدث خلال الحرب الأهلية. لكن التيار العربي المؤيد لدكتاتورية السلطة واصل الانحياز بشكل واضح، وقرأت حديثا في صحيفة خليجية مقالا لكاتبة بدا متحيزا ضد حسن نصر الله، الذي لا يُعيبه، ولا يُعيبنا، أن يكون "رمزا للمقاومة"، وإقحام جريمة اغتيال الحريري، كما قالت، للادعاء بأن موقف حزب الله مضاد لمبدأ المحكمة الدولية غير صحيح بشكل مطلق، طبقا لما نعرفه، ولعلي أطرح السؤال التالي : ألم يُعرف بعدُ قتلة الرئيس الحريري وبقية الضحايا، وإذا كان القاتل معروفا فلماذا لم يُعلِن المُحقق الدولي نتائج التحقيق، وإذا لم يكن عُرف حتى الآن، وهو أمر مضحك بعد نحو ثلاث سنوات، فلماذا نتحدث عن محكمة ليس معروفا، بعدُ، من ستحاكم ؟. هنا نجد أن ادعاءها، المنسجم مع طروحات بعض أطراف السلطة، بأن مخطط حزب الله هو خدمة أمريكا ادعاء مضحك وباطل، والقول بأن حزب الله جر الانتباه إلى لبنان ليشتت الرأي العام العربي عن الاهتمام بالنكبة زعم مثير للسخرية. وأسوأ ما قرأته مقارنتها بين الرئيس جورج بوش والسيد حسن نصر الله، لأن هذا تشريف غير مُستحق للأول وإهانة ظالمة للثاني، وأكثر منه سوءا حديثها عن الدعم الذي قدمته للبنان : "الدولُ السُنّية، التي سخّرت أجهزتها الإعلامية لتأييده ولنصرته، عدا أموالها التي تتدفق عليه من كل مكان إلى يومنا هذا"، أو كما قالت. والثابت المعروف أن مواقف التشكيك السياسي في جدية المقاومة وفتاوى التحذير الديني حتى من الدعاء لنصرة حزب الله وإشعال فتيل الفتنة السنية الشيعية والتحريض السافر للقوى الغربية كلها تتناقض مع ما تقوله الأستاذة. أما الحديث عن الأموال فكلنا يعرف مصدرها ووجهتها، وليتها توسعت في الحديث عمن تتدفق عليه الأموال لأنه يستهدف فعلا شق الصف المسلم لمصلحة أطراف خارجية، عربية وغير عربية. * - التصريح الذي أورده الشاعر مصطفى تومي مؤلف أغنية "مريم ماكيبا" في احتفالات العيد العاشر للإستقلال أعاد إلى ذاكرتي تلك الأيام الرائعة التي تمكنت فيه نخبة رائعة من تقديم صورة متميزة عن جزائر البناء والتشييد والكرامة. وكان الرئيس الراحل هواري بو مدين قد كلفني بإعداد الجانب الفني والثقافي في إطار اللجنة الوطنية التي كان يرأسها الأخ شريف بلقاسم. ومن بين ما أذكره استدعائي للشاعر صالح خرفي رحمه الله، وبناء على تعليمات الرئيس، لكي يُعد قصيدة تستكمل بها وردة قصيدتها خلال الثورة، ووافق بليغ حمدي على تلحين القصيدة في ظروف عاشها معي، في منزلي، بابا علي بن يوسف ومحمد راوراوا. وحدث أن مريم ماكيبا، التي لا تعرف العربية، تملكها الرعب عشية يوم الاحتفال، وحاولت الفرار لكيلا تغني الأنشودة الرائعة التي لحنها الأستاذ لامين بشيشي، ووجدت نفسي أقبل يدها لكي أشجعها على الغناء، ورأيتها قبل الحفل جاثية على ركبتيها تردد الصلاة والأدعية. وتفاصيل أخرى في كتابي م..دين، التجربة والجذور، وقد أعود لها لأسجل فضل الرجال.