[ 1 ] •• نشر كتاب البريد الباقي: الجّزائر سنة 2006 بعد مغادرة بوعلام صنصال منصبه بثلاث سنوات، كما أنه نشر قبل صدوره وبعد قَسَم البرابرة ثلاث روايات، كلّها تصبّ في خانة التّهديم والتشكيك والمراجعة الفكريّة لنتاج الاستقلال المشوّه حسب تعبير الكاتب نفسه، إعادة قراءة تاريخ الجّزائر المتأرجح بين الوهم والحقيقة، بين الأمل المفقود والخديعة، طرح أسئلة خطيرة عن جزائر الاستقلال تأسّست على أنقاض جزائر "نوستالجية" أشبه ببطاقة بريد لمدينة كولونياليّة بالأبيض والأسود، يظهر فيها فرنسيون، يهود وأقدام سوداء مع عائلاتهم، تغمرهم السّعادة، الإطار مكان وزمن ايتوبيين، على الهامش، يظهر جزائريون في حالة بؤس مخيفة يتدثّرون ثقافتهم الأنديجانية المتخلفة والمشفق عليها،ربّما هذا هو الانطباع السّائد عن الجزائر النوستالجيّة التّي يتعشّقها بوعلام صنصال مؤسّسا بذلك لظاهرة كتابيّة مثيرة للنّقاش يطلق عليها النقاد هويّة الانشقاق، وبعدما تشبّع بالنّجاح خاصة خارج الوطن يغوص صنصال في أعماق تجربة كتابيّة أكثر تعقيدا ومجازفة، وهذا ما انعكس في روايته الأخيرة المثيرة "قرية الألماني"، رواية إدانة التّاريخ بخلفياته الخطيرة والغامضة، التّاريخ الذّي يرى فيه الكاتب وفي جلّ رواياته مربط الخطيئة الأولى التّي أدّت إلى ولادة الجّزائر المشوّهة، جزائر الفوضى، الانهيار، الإنكار، الفساد، العنف، صراع جماعات المصالح، مما أهلّه وبامتياز للاصطدام بالسّلطة، لكنّه لا ينظر للخلف حيث النقد والاتهام والهجوم الشّرس عليه وعلى كتاباته مادام يكتب وينجح في اختراق جدار الصّمت والحصار ليصنع اسما أدبيّا على الضّفّة الأخرى، هناك الكلمة السّحريّة المرادفة للنّجاح هي أن يكون الكاتب هاتك لعورة المحرّمات، التّاريخ، الدّين والجّنس. لقد جاء البريد الباقي: الجّزائر كغيره من مؤلّفات صنصال صداميا مع المؤسسة، الشّعرة التّي قصمت ظهر البعير بينه وبين صبر السّلطة عليه، بحكم أن الكتاب الذّي جاء في شكل خطاب مباشر للجّزائريين هو كتاب إدانة وتحريض، كتب بلغة خاليّة من التنميق والزّخرفة ومقتضبة ومباشرة، يقول صنصال••"في البداية كان شيئا مؤلما بالنّسبة لي، لكن فيما بعد قلت هذا ليس بالأمر السّيء، الحقائق ممزّقة ومن الصّعب إعادة تشكيلها أو شرحها، لكنني كنت أكتب كما كان يكتب غيري من الرّافضين و هذا منذ أربعين سنة وهذا ما أعتبره مهمّا"••ليس بالضّرورة أن نفكّر كثيرا في اليأس مادامت الكتابة في بلاد كالجزائر هي فعل مقاومة وصبر وصنصال لم يحد عن هذا المسار، فهو في هذه الحالة يلعب دور الكاتب المشوّش، الحفّار، المنشقّ. بوعلام صنصال المولود ب 15 أكتوبر 1949 في ثنية العابد، الولد الثاني من أربعة أولاد واليتيم بعدما فقد والده، ورث عن جدّه المحارب القديم في خنادق أوروبا 1914 ارتباطه الوثيق بالثقافة الفرنسيّة، هوس المطالعة، إعجابه بالنّمط الحياتي الغربي، رغم تكوينه التقني فالجزائرالجديدة تحتاج لعقول أكثر من منمّقي الكلام الجميل، فينكفئ إلى حين في وظيفته كإطار سامي في وزارة الصّناعات الثقيلة، منتظرا الدّكليك المحفّز، المفجّر للطّاقة الدّاخليّة لكل من خلق للكتابة لكنّه مازال لم يكتب، ثمّ تأتي العشريّة الحمراء لتفعل فعلتها، تفجّر فيه بركان الغضب، غضب الكلمات أقوى من غضب السّلاح، بالنّسبة له الأمور أكثر تعقيدا ولبسا والتباسا عندما ينكفئ العقل حول نفسه عند استنطاق العزلة والخوف والبربريّة له،يقول عن تجربته في تلك الفترة•• "بعد الخامسة مساء، لا وجود للحياة في الخارج، ماعدا العسكر والقتلة، لم نعد نحيا، نخرج، إذا بدأت في الكتابة••"، أرسل"قسم البرابرة"عن طريق البريد لدار النشر غاليمار، غمرت صاحب الدّار فرحة وهو يقرأ المخطوط••"أحببت طريقة كتابته الغاضبة، الثّائرة، المستفزّة، السّاخرة والشّريرة••"، ثمّ يردف متذكّرا••" يعرف بوعلام صنصال أن لا سبيل آخر إلا الكتابة، لذا يقوم بهذا الأمر بشجاعة هادئة تقلق أصدقائه لكنّها تدفعهم لاحترامه، بعكس المنتقدين الآخرين فهو متعلّق ببلاده، في رواية قرية الألماني لم يستعمل لغة الاستفزاز لكنّه ظهر بوجه الرّاغب في قول كلّ الأشياء دفعة واحدة، ذكر الحقائق التّي يرفض الآخرون سماعها، كذلك الغرب يتعمّد هذا التّجاهل، اللامبالاة، يشتكي صنصال، يحتجّ، يدعو هذا الغرب إلى مساءلة ضميره ، أن لا يتساهل مع خطر الإسلامويّة، هذا الكاتب الذّي صنع ذاته من أحشاء ظروف صعبة لا يخاف من الكلمات، لكنّه في نفس الوقت يشكّ كثيرا في سطوتها وسلطتها•• [ 2 ] ••البريد المتبقى: الجّزائر رسالة طويلة موجّهة للجّزائريين، يشرح فيها الكاتب رؤيته لجزائر جديدة تبنى على أنقاض جزائر أخرى بالأبيض والأسود، مراجعة جذريّة لمجموعة من الثوابت يتهم السّلطة بتحريفها، حيث يرى أنّ فكرة الدّين الواحد واللّغة الواحدة والوطن الواحد هي التّي قادتنا إلى الزّعيم الواحد، إلى الشّمولية الهدّامة، مضيفاً أنّ التاريخ يُظهر أنّ الجّزائريين عرفوا ديانات كثيرة وأنّ العربيّة ليست هي اللّغة الوحيدة في الجّزائر، ويرى أنّ الخلاص يمرّ بالتنوّع الثقافي،الفسيفساء الاثنية، طبعا تعرّضت هذه الأفكار لهجوم عنيف وعندّما تقدّمت منشورات سيديا الجزائرية بسلسلة من الكتب لتدعيم ترجمتها للعربيّة، ما كان من الوصاية الثّقافيّة غير رفض بعض الكتب وعلى رأسها رواية حرافة لصنصال.. وهذا كان كافياً لإعادته إلى الواجهة ككاتب مغضوب عليه. من جهته يستغرب هذا الأخير هذا المنع ويعتبره غير مجدي لأن سلطة الكلمة أقوى من الرّقابة، مستدلاّ بالكتاب الرّوس المنشقّين سولجستين، نابوكوف، بوريس باسترناك، إسماعيل قاداري، والشّاعر التّركي ناظم حكمت وآخرون.. والذّين أعادت لهم الحتمية التّاريخيّة الاعتبار. لكن هل يعتبر بوعلام صنصال من هذا النّوع من الكتاب المنشقّين الكلاسيكيين أوأنه يمثّل نموذجا جديدا لكتّاب يعرفون بجماعة هويّة الانشقاق، كسلمان رشدي، تسليمه نسرين، وهذا شيء مختلف تماما. ما جاء في البريد الباقي:الجّزائر أثار غضب السّلطة وامتعاض الكتّاب الجّزائريين المعتدلين إن صحّ التّعبير والذّين يعتبرون صنصال قد تجاوز المحظور، وهذا الامتعاض والرّفض مبرّر إذا كان تهجّمه يمسّ قناعات وثوابت شعب بغضّ النظر إذا كانت السّلطة شموليّة••"لن أمدّ يدي لشخص كتب بأن حرب التّحرير لم تخلف مليون ونصف شهيد••"هذا ما قالته وزيرة الثقافة في معرض باريس الدّولي للكتاب الأخير بنبرة غاضبة، في كتابه يشكّك صنصال في الرّقم الرّسمي لضحايا حرب التّحرير بين54و62••"أريد معرفة من وثّق الحقيقة التّاريخيّة بأن حرب الجّزائر خلفت مليون ونصف ضحيّة، هل الجّزائريون الذّين قتلهم الافلان لأنّهم شربوا، دخنوا، صادقوا فرنسيين أو رفضوا دفع إتاوة الجهاد مذكورين في هذا العدد؟••"••يهاجم أيضا الأيدولوجيا الرسميّة التّي تؤسّس الهويّة الوطنية على مرتكز العروبة والإسلام، الجّزائر بالنّسبة له ليست عربيّة، إذا قمنا بعزل ال80 بالمائة من البربر، الذّين حصلوا على الجنسيّة الجزائريّة بالأقدميّة التّاريخيّة، الموريسك، اليهود، الأقدام السّوداء والأتراك، لماذا يريدون جعل منا نسخا طبقا للأصل من أبناء العمومة العرب••"، يسأل••"لنقل فقط أن الجّزائر يسكنها جزائريون، التّأكيد والتّصميم على عروبتنا المنزّلة من السّماء هي شكل من أشكال العنصريّة المخيفة••"، غضب صنصال لا يستثني حتّى دعاة الأمازيغيّة المتشدّدين••"جميعنا يسري فينا دماء مختلطة، مبعثرين في تخوم الجهات الأربعة، من الصّعب مثلا في عائلتنا معرفة من نكون، من أين قدمنا وإلى أين سنذهب، إذا كلّ واحد من الأطراف يفضّل اختيار عيّنة الدم التّي تناسبه عند الإجراءات الإداريّة، حتما البربر ليسوا مؤهّلين عن غيرهم ليدّعوا أنّهم أبناء الجّزائر، الإسلام كدين الدّولة، هو جرح عميق، نفي راديكالي للآخرين، للغير المؤمنين، الذّين يدعون لدين آخر••"،يدعو أيضا لإلغاء التّعليم الدّيني في المدارس، إغلاق المساجد العشوائيّة، العودة إلى نهاية الأسبوع العالمية (يوم الأحد)، تخفيض صوت مكبّرات المساجد. لقد جاء الكتاب في شكل خطاب اتّهام وتشكيك وتعريّة للواقع الجّزائري، جزائر الأغنياء،رجال السّياسة والأعمال و البارونات والملايين من المواطنين الصّامتين، المحشورين في أحياء شعبية شبيهة بغيتوهات، مواطنين هامشيين بين فكي كماشة رأسماليّة متوحشة ونظام سياسي مهترئ من الدّاخل، مغلق، يرفض الانفتاح ويدفع مواطنيه إلى القطيعة والصّدام وأن مصيره كما يتنبأ الانهيار. في حوار صحفي بتاريخ 20 مارس2007، يقول صنصال••"في رواياتي، ناقشت القضايا التّي تهمّ بلادي والجّزائريين،مسالة الهويّة، اللّغات، الدّين ، المؤسّسات والدّيمقراطيّة.. في البريد الباقي، جمعت كلّ هذه القضايا في شكل خطاب قصير وعنيف•• •••يتبع