اندهاشي من تسارع الأحداث بعد مباراة مصر والجزائر الأخيرة بالسودان، ومن سيّرها في الاتجاه المغلوط، جعلني أكتب مقالي الماضي ''جرَّب نار الكورة'' بسرعة من يريد أن يسدّ الباب الذي تدخل منه الريح بجسده، حتى لا تزداد الأمور تأزُّمًا• هذه السرعة جعلتني أقع في خطأين نحويين وخطأ معرفي فادحٍ•• قلتُ: ''إن بعض المثقفين ضالعين فيها'' وصحتها ''ضالعون'' خبر إنَّ، وقلت: ''أتذكّر أصدقائنا'' وصحّتها ''أصدقاءنا'' مفعول به منصوب•• كما تحدثت عن الشاعر والروائي الكبير بنسالم حميش باعتباره وزير الثقافة الجزائرى، وأنا أعرف أنه وزير ثقافة المغرب، كما أعرف أن السيدة خالدة تومي وزيرة الثقافة الجزائرية أكثر الذين رأيتهم رقيًّا وثقافة، ويكفي أنها حينما دعيت إلى افتتاح ندوة الترجمة التي أقامها اتحاد الكتّاب في مارس الماضي، ألقت كلمة بدأتها بالقول: ''أصحاب الفخامة الأدباء والشعراء'' فقوبلت بعاصفة من التصفيق• ورغم هذه الأخطاء فأنا سعيد لأن عقلاء كثيرين، في مصر والجزائر ذهبوا إلى ما ذهبتُ إليه من أن ما حدث مجرد انفعال يحدث في ملاعب كرة القدم، وإن كان قد بدا زائدًا عن المألوف، فلأن بعض المحسوبين على الصحافة الرياضية راحوا على مدى سنوات يطعّمون النار بالقش والزيت، ويصوّرون المباراة وكأنها معركة حربية، الدليل على ذلك أنني دخلت في عدة حوارات مع بعض الحانقين في المترو والميكروباص•• إلخ، سألتهم لأعرف بصدق: ما هي الجريمة التي اقترفها الجزائريون بالضبط؟ والمدهش أن السؤال كان مفاجئًا لهم، فلم يجد الواحد منهم إجابة مقنعة، إذ إن كل ما نُقِل إليهم يدخل في باب النوايا والرجم بالغيب، فقد قالوا لهم إن ''الجزائريين اشتروا سلاحًا أبيض بكثافة من أسواق السودان''، وإنهم ''كانوا (ينوون) أن يحوّلوا الملعب إلى بحر دم إن خسروا، وكانت خسارتهم مؤكدة! سألت: ما قيمة السلاح الأبيض أو الأسود إن لم يُستخدم؟ وما مدى تأثير هذا (الغيب) على سير المباراة نفسها؟ ثم: ألا يوجد احتمال أن يكون التصعيدُ مقصوداً لصرف الانتباه عن الهزيمة وفرسانها الذين قبضوا مكافآت مجزية عنها؟ فلم يجدوا إجابة عن السؤال! أقول للغاضبين: إن ما حدث، حدث بعد المباراة وليس قبلها، وما تناقلته الأنباء أن (بعض) المحسوبين على الشعب الجزائري رموا الأوتوبيس الذي يقلّ الفريق المصري وجماهيره إلى المطار بالطوب، مما أدى إلى تهشم بعض النوافذ وإصابة البعض بإصابات طفيفة•• هذا النوع من الشغب يعد طفوليًّا إذا ما قيس بشغب الملاعب في كل بلاد الدنيا، ومنها مصر، فلم يغب عن الأذهان بعدُ أن جماهير النادي الأهلي كسَّرت استاد القاهرة منذ سنوات عقب ضربة الجزاء الشهيرة لمصلحة الزمالك التي تسبّب فيها مروان كنفاني حارس الأهلي وقتها ضد لاعب زملكاوي اسمه إبراهيم الدسوقي لم يُقدَّر له أن يعمِّرَ طويلاً في الملاعب! ومنذ عدة شهور فقط اضطر الأمن إلى احتجاز فريق الكرة الأهلاوي وأجهزته المعاونة في غرفة خلع الملابس باستاد الإسماعيلية لمدة أربع ساعات حتى يتم إخلاء الطرق من المتعصبين الذين كسَّروا الأوتوبيسات والسيارات وقرّروا الفتك باللاعبين لأنهم فازوا على فريق الإسماعيلي، كما أن جمهور الإسماعيلية نفسه خرج إلى الشوارع بالآلاف احتفالاً بفوز فريق النجم الساحلي (التونسي) على فريق الأهلي (المصري) بثلاثة أهداف في نهائي كأس إفريقيا بالقاهرة، ناهيك عن التواجد الكثيف لجماهير نادي الزمالك أثناء المباراة نفسها حاملين علم تونس وعلم النجم الساحلي! إن الذي يراقب ما حدث قبل المباراة وبعدها، ويقرأ ما كتبه الصحفيون والكتّاب والمثقفون، يطلعُ بنتيجةٍ مُرَّةٍ، هي أن بعض السياسيين ضخَّمُوا أعمال الشغب (المرفوضة) ليكسبُوا أرضًا لدى الشارع الكروي المتعصّب والمنفعل، بصرف النظر عن الآثار السلبية لتصريحاتهم على المديين: القريب والبعيد، وأن بعض المثقفين المناوئين للقومية العربية وجمال عبد الناصر وجدوها فرصة لإعادة التأكيد أن مصر مصرية، وأن العرب يكرهوننا لأنهم أقلّ منا ثقافةً وعلمًا وتحضُّرًا، وأن الفتح العربي لمصر أضرها كثيرًا، فلولاه لكُنَّا الآن في مصافِّ الدول العظمى! بل إن أحدهم ذهب إلى حد أن وحدة اللغة أكذوبة، إذ إن الجزائريين يتحدثون الفرنسية، وإنك إن سمعت حوارًا بين جزائريَيْن لا تفهم ما يقولان! متجاهلاً أننا أحببنا واسينى الأعرج و(سي الطاهر) وطار كما أحببنا بهاء طاهر وجمال الغيطاني•• إلخ• ''فاطمة ناعوت''، صديقتي الشاعرة، اتصلت بي عقب نشر مقالى السابق، ولامتني لأنني قلتُ إن بعض العرب يحبون مصر أكثر مما نحبها، فهي ترى أن من يحب بلدًا آخر- حتى لو كان مصر- أكثر من بلده لا يعد مواطنًا شريفًا، لذلك فإن هذا الحكم الذي يُغضب المصريين- من وجهة نظرها- يجب أن يُغضب الجزائريين أكثر، وأنا بالطبع أتفهّم وجهة نظر فاطمة ناعوت، خصوصًا أنها من ذلك الفريق الذي يتغنى بمصرية مصر، وأنها تجهل- بسبب عدم اهتمامها بالكرة- سلوك جماهيرها في كل مكان بالعالم، حتى في إنجلترا الديمقراطية المتحضّرة، وتجهل التاريخ الذي أزَّم هذه المباراة المشكلة قبل أن تبدأ بعشر سنوات•• لكنني أتفهّم غضبها من أن بعض الجزائريين مزَّقُوا علم مصر وداسوه، فذلك غير مقبول بالمرة خصوصًا أننا نحن الذين اخترعناه كرمز لرفض الوجود الإسرائيلي في فلسطين والاحتلال الأمريكي، الفعلي أو الرمزي، لبعض الدول العربية، أتفهّم غضبها وأعتبر أنها الوحيدة في مصر التي تملك سببًا مقنعًا للحنق ضد الجزائر والجزائريين•