المتجول عبر مختلف شوارع وأسواق مدينة قسنطينة، كغيرها من المدن الجزائرية، يشهد ارتفاعا في أعداد المتسولين، الذين خرج البعض منهم عن هذه القاعدة التقليدية المميزة لهم• ويتجلى للمتمعن في هذه الظاهرة مشهد مغاير لما كان مألوفا خلال السنوات القليلة الماضية، أين تجد مظهر بعض المتسولين الجدد من النساء والرجال، وحتى الشباب، لا يوحي البتة بالحاجة إلى التسول، وهو الأمر الذي يعد خطوة غير متوقعة من قبل هذه الفئة التي امتهنت التسول كنشاط سهل للاسترزاق وجمع الأموال، في ظل غياب أعين الرقابة التي تغرد خارج السرب• ''الفجر'' حاولت رصد آراء الناس حول مظهر بعض المتسولين الجدد، الذين تملصوا عن الجلباب التقليدي لهذه الظاهرة الاجتماعية المتشابكة الخيوط• متسولون في ثوب الحداثة يبدو أن زمن العولمة بكل مؤثراته وتداعياته جعل بعض المتسولين يطلقون آخر صيحات الحداثة في عالمهم، الذي هو الآخر أخذ حصته من هذه الكعكة الدسمة• من منا كان يتوقع أن يصادفه ذات يوم متسول لا تبدو عليه البتة ملامح الحاجة والعوز، وهو واقع اعتبره بعض الأخصائيين في علم الاجتماع بالظاهرة الجديدة التي تميز متسولي المجتمع المعاصر• وما يثير الدهشة أن يعترض طريقك إلى العمل أو الدراسة متسول نظيف وبهندام مرتب، دون أن تبدو عليه أي شائبة صحية أو جسدية، يسألك بكلمات مثيرة للاستعطاف وملامح تصطنع الذل والإنكسار أن تمن عليه ببعض الدنانير، هل كنت حقا تنتظر أن يصادفك هذا المشهد من الدراما الواقعية؟ وعن أشكال التسول الحديث تقول أمال، موظفة بإحدى المؤسسات التربوية في قسنطينة، إنه بينما كانت في طريقها إلى العمل استوقفتها امرأة أربعينية العمر، ''خلتها للوهلة الأولى ستسألني عن الوقت أو عنوان ما لأتفاجأ بقولها باكية في حالة هستيريا إنها تعرضت منذ دقائق للسرقة ولم يتبق عندها حتى ثمن ركوب الحافلة''• وتضيف أمال أنها أعطتها ما سألت، غير أنها اصطدمت بعد خروجها من العمل وقت الغذاء بنفس المرأة، وهي تكرر نفس التمثيلية أمام شخص آخر ''فاكتشفت حينها أنها إحدى المتسولات اللائي يُجدن الكذب والتمثيل''• وتضيف أمال مستغربة من تكرار هذا المشهد الطريف بشكل يومي أمامها، أين تجد تلك السيدة بصفة مستمرة في ذلك المكان تعترض طريق المارة طيلة النهار•• وكأن سارق النقود يسرقها كل يوم• في سبيل المال••الكرامة في مهب الريح تتباين الآراء باختلاف المواقف والحالات التي يشاهدها المواطن في الشارع، وكذا باختلاف المهن الممارسة، لاسيما منها ذات الاحتكاك الواسع بالأفراد• ويقول العم محمود، سائق سيارة أجرة، إن بعض حالات التسول جد معقولة وتلقى استعطافا واسعا من طرف الآخرين، فمثلا كان التسول في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته يختلف عما هو عليه في الوقت الحاضر، حيث كانت الظاهرة جد محدودة، فطبيعة تركيبة المتسول في الماضي القريب تختلف تماما عما هو عليه أكثرهم في الوقت الحاضر• فالمتسول قديما كان يحمل جانبا من الكرامة وعزة النفس فلا يتصنع ولا يتكلف أكثر من حالته العادية التي يمارسها للحصول على المال، أما في الوقت الحاضر فبعضهم يلح معك في الطلب، وإذا لم تلب طلبه فقد يتجاوز عليك بالكلام ويشتمك• ويسترسل عمي محمود في حديثه قائلا إن أغرب حالات التسول التي صادفها في حياته عندما اكتشف أنه كان يُقل رجلا متنكرا بزي امرأة ترتدي برقعا، برفقتها طفلة صغيرة تحمل ورقة كارتونية مكتوب فيها ''أنا امرأة خرساء توفي زوجي وتركني بدون مدخول شهري ساعدوني لإعالة ابنتي اليتيمة''• وأضاف: ''أتذكر أنني أصبت بالفزع حينما تفأجات بالمرأة تتحول إلى رجل بعدما نزع البرقع في السيارة، وغير ملابس الطفلة المتسخة التي كانت برفقته''• فالكثير من المتسولين أصبحوا يمارسون التسول كنشاط مهني مستغلين كافة وسائل الاحتيال والخداع للكسب السريع تحت غطاء الفقر، وهي مظاهر يشاهدها عمي محمود في كل الشوارع التي يجوبها أثناء عمله• حتمية العقاب لكل من تخول له نفسه امتهان التسول وتعتبر المحامية والأخصائية في علم الاجتماع، قيفوش هيبة، أن وجود قوانين رادعة لهذه الظاهرة في ثوبها الجديد ضروري، ويجب التعامل معها بشدة وحزم من طرف جميع أطراف المجتمع المدني• وأضافت المحامية أن اعتبار هذه الظاهرة جريمة يعاقب عليها القانون، بتحديد العقاب المناسب لمن يقوم بامتهان التسول، يعد خطوة مهمة في التصدي لأبعاد هذه الظاهرة التي تزداد استفحالا يوما بعد يوم• وتقول المتحدثة إن التسول خرج من دائرة الاحتراف والاجتهادات الفردية إلى ما يمكن أن يطلق عليه ''العمل التنظيمي والمؤسّساتي''، وهو عمل يجمع بين التسوّل من جهة وشبكات الدعارة من جهة ثانية، وتشغيل الأطفال القصر أو ما يعرف بأطفال الشوارع في هذا الحقل الخصب من جهة ثالثة، ولو كان ذلك بشكل موسمي خاصة خلال فترة الأعياد والمناسبات الدينية• وأشارت المتحدثة إلى ضرورة تصعيد عمل دوريات أعوان الرقابة في ضبط المتسولين وتوجيههم إلى مراكز الإيواء التي خصصتها الدولة لهذا الغرض، حتى يتسنى للباحثين في هذه الظاهرة معرفة أسبابها الحقيقية لإيجاد السبل الكفيلة بالتخلص من هذا الورم الخبيث الذي ينخر المجتمع•