لو تحدثت عن البانوراما الثقافية والفكرية التي تميز الظاهرة المصرية عبر تاريخ يشهدُ له من في نفسه ذرة حياة، أو كما يقول إخواننا المصريون ''من في عينه حصوة ملح''، بالسبق في عديد المجالات وكيف استطاع العقل العربي والمسلم في مصر، الزمان الجميل، أن يتناغم مع مجمل القضايا التي تهمّ الأمّة عبر تاريخها الطويل والحافل بالتحديات والأحداث• لقد شهدت الأمّة العربية والإسلامية أحداثا عظيمةً كانت مصر إحدى ساحات وقائعها وكان إنسانها بتركيبته النفسية والعقائدية، آنذاك، بعيدا عن الأنانية القطرية والشوفينية العرقية والاستعلائية المقيتة، فاحتضن بكل ودٍّ واعتزازٍ وإيمانٍ عظماءَ الأمّةِ البارزين الذين صنعوا، بمعية إخوانهم المسلمين والعرب، أمجادا نُقِشَتْ بماء الذهب على صفحات التاريخ المشرق شَرُفت به أجيال الأمّة عبر العصور• هي ذي مصرُ التي عرفناها بتاريخها الناصع والمشترك مع باقي الأقطار العربية والإسلامية، كريمة وصابرة ومنصفة ومتواضعة بعلمائها وحكامها وأهلها• لكن صورة مصر، الربع الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، بحكّامها وبعض علمائها، ومثقفيها وأهلها، ممّن يصنعون يومياتها، تختلف تمام الاختلاف عن تلك الصورة النمطية والوجدانية التي علقت في ذاكرة عمقنا التاريخي والثقافي والاجتماعي والإنساني•• مصر اليوم، ومن الفقر الاستراتيجي القاتل، ارتدت رداء التفرعن والتكبر فطمست بالبهتان ماضيها، ورهنت بجنون العظمة حاضرها، وضيعت برعونة المواقف مستقبلها•• مصر اليوم، بنظامها السياسي ومنظومتها الثقافية، كشفت عن وجهها الجديد، الذي حدّدت ملامحه عمليات تجميل دولية الغاية منها تأهيلها إلى لعب دور جديد محاوره الأساسية الوأد والتعطيل والتفريغ من المحتوى•• مصر اليوم أرادها جرّاحوها فارغة من أي محتوى فاعل يشدّها إلى أصلها ويبرز محاسنها، فعمدوا إلى نفخ الحياة في مفاتنها الفرعونية بالسيلكون المخبري ليسهُل عليهم توظيفها في سوق العُهر السياسي العالمي المعادي للإسلام والعروبة•• للأسف، لقد تغيرت مصر وتغير إنسانها وتغيرت إحداثياتها في معْلم الطموحات العربية وتغير مجرى نيلِ أولوياتِها وأضحى يصب في بحر ليس له شطآن عربية•• أحداث متتالية مرّت بها الأمّة كشفت عن حالة مصر المرضية• حالة من النرجسية والأنانية والاستعلاء الهستيري وعدم قبول النقد•• حالة مرَضية تهدّد الشخصية المصرية، بكل أبعادها، إذ لا يختلف اثنان أنّ صوت الأخت الكبرى أضحى نشازا وعورةً فهي تنظر إلى أخواتها نظرة احتقار واستهتار، وهذا ما لمسناه في الأحداث الأخيرة، قبل وبعد مباراة كرة القدم المشهورة، على لسان فعالياتها السياسية والإعلامية والثقافية والدينية•• لقد مللنا من سماع أسطوانة ''مصر أم الدنيا'' وكأنّ الدنيا ليس بها سوى مصر وحضارة مصر ونيل مصر وسينما مصر ومسرح مصر، وإعلام مصر ومثقفي مصر وعلماء مصر وفقهاء مصر وسياسيي مصر وأدباء مصر ولاعبي مصر•• سُحقا لهذا الجنون الهستيري الذي دمّر مصر نفسَها قبل أن يدمّر العالم العربي و الإسلامي•• سُحقا لهذا الهذيان اللاّإرادي الذي أحال مصر على التقاعد المبكر•• سُحقا لهذه النرجسية التي حوّلت مصرَ مركز الكون كلّه وفي واقعها تعيش على هامش الآمال العربية•• سُحقا لهذه العظمة الموهومة التي بنت أهرامات من الورق على مقبرة الطموحات العربية•• سُحقا لهذا الوسواس القسري الذي أوهم مصر ونخبها، المريضة بجنون الاضطهاد، أنّ العرب يكرهونها، ويتحيّنون الفرص للقضاء على أحلامها الوردية•• سُحقا لهذا الانفصام الذي حوّل الخيانة وفاء والطعن في الظهر حكمة ودهاء والمقاومة تهورا ومغامرة وغباء•• سُحقا لمرض البارانويا الذي جرّد مصر من لباس الحياء والاستقامة والتواضع وألبسها ثوب الفظاظة والاعوجاج والتفرعن•• ما صدر من مصر الرسمية، بكل فعالياتها السياسية والثقافية، عبر قنواتها الدبلوماسية والإعلامية أكّد الأعراض المرضية التي مسّت نفسية الفرد المصري في شخصيته وعقله وسلوكياته•• المريض بجنون العظمة، أو ما يسمّى في اصطلاح علم النفس بالبارانويا، تصدر عنه أقوال وأفعال وتصرفات توحي بالتكبّر وعدم قبول النقد والفوقية واحتقار الآخر والأنانية والكذب والافتراء والعدوانية وتضخيم الذات•• كما أجمع علماء النفس أنّ مرض البارانويا يتعدّى الفرد المريض ليشمل جماعة أو مجتمعا بأكمله وهنا نورد قول فرويد الذي أكّد أنّ اليهود لديهم مرض البارانويا المستمد من اعتقادهم بأنّهم شعب الله المختار وأنّهم أفضل الشعوب على الإطلاق (*)• وباستقراء الواقع المصري من الناحية النفسية يمكن القول بأنّ مصر تعاني من مرض البارانويا الجماعي المستمدّ من اعتقاد أهلها بأنّ مصر أمّ الدنيا وبأنّهم أفضل الشعوب العربية على الإطلاق، وهذا ما نلمسه في أقوال وتصرفات كل المصريين دون استثناء عدا بعض الحالات الشّاذة التي لا يقاس عليها•• وحسب التعريف العلمي، يعتبر مرض البارانويا حالة نفسيّة مرضيّة يملك المصاب بها جهازاً عقائدياً معقّداً وتفصيلياً يتمركز حول أوهام لا أرضيّة واقعية لها• فالمصاب به متكبر بلا حدود تكبّرا يحجبه تواضع زائف ومتكلّف، وهو يعتقد بأنّه الذكاء التّام وينسب لنفسه سائر المزايا الحسنة والفضائل الكريمة وجميع أنواع التحضر ويصف غيره بالغباء وكل الأوصاف القبيحة• المريض بالبارانويا يطالب الناس بالاحترام الذي يجب للعظماء، وهو يخفي تحت أقنعة الطيبة والإنصاف أنانيةً تحمل في صميمها العداوة والحسد ويعطي لكماله الأهمية المطلقة ولا مجال للتسامح لديه إلا عندما يمثل التسامح تمثيلا يعزّز مظهر عظمة النفس لديه• المجنون بالعظمة شخص يظن غالبا بأنه مكروه لأنّ وضوحه وذكاءه يجعلانه شديد الخطر وأن من المصلحة إذن أن يكون مستهدفا• المصاب بالبارانويا كذّاب ومتشدّد ومستبدّ وحقود وعنيد ولا يتحمّل أي نظام، على أي صورةٍ كان، وهو عاجز عن الخضوع إلى روح الجماعة ولا يتصور أن ثمّة لائحة يمكن أن تطبق عليه ويقتضي أن يكون من جِبلة غير جِبلة الآخرين وأن يعترف له الناس بذلك ومن هنا منشأ الشعور بالتفوق (*)• وتصيبني الدهشة ويعتريني الذهول عندما أقرأ موضوعا طويلا لأحدهم، على صفحات النت، وهو يصف مصر ويصورها على أنّها العذراء التي وهبت نفسها للغول لتنقذ قومها في ملحمة أسطورية ويتساءل: ماذا قدّمت مصر للعرب؟!!!!••فكان ردّي له أليس من المنطقي أن يكون تساؤلك كالتالي: ماذا قدّم العرب والمسلمون لمصر؟•• وهو السؤال الذي أعتبره سويا وموضوعيا وبعيدا عن التنكّر لفضل الآخر ووضع الذات في حجمها الحقيقي•• ولعلّ الفترة الأخيرة سمعنا من المصريين، على اختلافهم، الكثير من الجمل التي تشبه تساؤل كاتب الموضوع المذكور أعلاه وكأنّ مصر وأهلها من كوكب آخر ومن فصيلة أخرى•• وللأسف هذا هو لسان حال مصر الرسمية وغير الرسمية وفيما يخص المواقف فحدث ولا حرج ولا داعي إلى أن نتطرق إليها لأنّ الكل يعلمها وآخرها الجدار الفولاذي•• نسأل الله السلامة والعافية!!! شيء آخر، إذا أكّد المختصون بأنّ مرض البارانويا خطير ومعدي ويهدّد التركيبة النفسية للأفراد ونسيج العلاقات الاجتماعية التي تربطهم، فإنّه من الضروري مواجهة مثل هذه الحالات بحكمة وحزم حتى لا تنتقل العدوى إلى أفراد أسوياء•• ولن يتأتّى هذا الإجراء إلا إذا عزلت الحالة المرضية عن العالم المحيط بها ومباشرة العلاج الإكلينيكي بكل صرامة•• ونحن هنا نتساءل؛ إذا كان مصدر البارانويا لدى اليهود نابع من تلموذهم وتعاليم دينهم، فما هو منبع البارانويا لدى المصريين، على اختلاف مشاربهم، وما هي دوافعه وما هو علاجه؟؟؟••أليس من المنطقي أن تستفيد القوى العالمية، وعلى رأسها إسرائيل والولايات المتحدة، من هذه النزعة الهستيرية؟•• ألم يساهم العالم العربي في تعزيز هذا الإحساس المصري بجنون العظمة؟••ألا نلاحظ أنّ الخاسر الوحيد هي القضايا العربية والإسلامية؟••ألا يكون التطبيع مع الإسرائيلي قد نقل العدوى إلى أشقائنا في مصر؟؟••لا ندري! لكنّها مجموعة من التساؤلات الإجابة عليها تصف العلاج وتوضح الصورة وتصحّح الأخطاء وتسمح بإعادة التمركز في عالم يجري بسرعة الضوء••• أخيرا، ليس العيب في أن يكون المرء وطنيا محبّا لوطنه•• وليس العيب في أن يكون الإنسان متحمسا لقضايا بلده•• وليس من العيب أن يدافع المرء عن أهله وأرضه بكل قوة•• لكنّ العيب، كل العيب، أن يكون المرء أنانيا ومتكبرا ومحتقرا لغيره ومعظِّما لذاته حتى يحسب نفسه فريدا من نوعه وأنّه ليس من فصيلة الآخرين•• مصر العربية المسلمة وطن، كأي وطن، يسكنه بشر ككل البشر فيهم من السلبيات فيقدحون ولهم من الإيجابيات فيمدحون•• لذلك ننصح أنفسنا، كبشر لهم وطن اسمه الجزائر، وننصح إخواننا الذين يكتنفهم حضن مصر الحبيبة أن نلتزم التواضع وأن نرتدي عباءة الموضوعية وأن نصطف مع كل العرب في صف الحب والمودّة والتنكّر للذات•• فكلّنا عيوب وللنّاس ألسن•• الأستاذ: ه• سدراتي (*) الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث (بتصرف)، تأليف: بيير داكو ترجمة وجيه أسعد، دمشق-الشركة المتحدة للتوزيع - الطبعة الثانية - 1985