في بداية القرن الماضي كان هناك مجموعة تريد أن تخترع لغة اسمها “الإسبيرانتو”، وقالوا إن كل إنسان في العالم لا بد أن يكون لديه لغته ويضيف إليها لغة أخرى نستطيع جميعا أن نتكلم بها في كل دول العالم. ولكن شاءت الظروف ألا تصبح “الإسبيرانتو” لغة العالم الدارجة، وأصبحت اللغة الإنجليزية هي “الإسبيرانتو” للعالم كله. ولكن لماذا أصبحت اللغة الإنجليزية اليوم هي لغة التواصل الدولي؟ لقد هيمنت بريطانيا العظمى على العالم فترة طويلة في القرن التاسع عشر ثم جاءت الولاياتالمتحدةالأمريكية لتقوم بنفس الدور في القرن العشرين، بالإضافة إلى القوة الاقتصادية لكل منهما، حتى أن الهند والصين اختارتا اللغة الإنجليزية لغة ثانية، رغم وجود العديد من اللغات بها، إضافة إلى أن الإنجليزية هي لغة العلم الآن. وكانت اللغة الفرعونية قديماً هي لغة العلم، وكان الإغريق يأتون إلى مصر للتعلم و”فيثاغورس” و”أفلاطون” جاءا ودرسا في مصر، مثلما يذهب الباحثون إلى بعثة في أوروبا أو أمريكا في وقتنا الحالي. وبعد ذلك صارت اللغة الإغريقية هي الأولى ثم اللغة اللاتينية ثم اللغة العربية التي ظلت فترة طويلة هي لغة العلم، وقد قال “البيروني” - وكان فارسيا - إنه لا يمكن أن يكتب إلا باللغة العربية، و”الخوارزمي” كان يكتب المعادلات باللغة العربية وليس بالرموز لأنها كانت لغة العلم في عصره. جاءت بعد ذلك اللاتينية، حتى أن “نيوتن” عندما كتب ثورته التاريخية كتبها باللغة اللاتينية، ثم تحولت لغة العلم إلى الفرنسية، وفي فترة بسيطة في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت لغة العلم هي الألمانية حيث نجد أن “ماكس بلانك” و”أينشتاين” سجلا علمهما باللغة الألمانية، ثم انتهت إلى الإنجليزية وهي الفترة التي نعيشها الآن. إلا أن هناك تخوفا من سيطرة أصحاب اللغة وخاصة التواجد الأمريكي في المنطقة وما يصاحب ذلك من توتر، إلا أن علينا ألا نخاف، فأمريكا واقع موجود اليوم مثلما كانت إنجلترا واقعا في القرن التاسع عشر ومازالت واقعا في مجالات معينة، فنحن وبقية دول العالم نشعر بهذه القوة ونخاف ولكن ممَّ نخاف؟! فإذا رجعنا للتاريخ سنجد أن الإسلام استمر 1400 سنة ومازال رغم الاستعمار ورغم انكسار الدول الإسلامية، وبالتالي فإننا يجب أن ننظر نظرة تاريخية بعيدة المدى، وألا نخاف من أي شيء، فلا بد أن ننفتح على الآخرين لنأخذ منهم ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا. وهو ما فعلته أمريكا التي بنت ثقافتها الجماهيرية على الجمهور المتوسط، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد لديها فنون من أرقى الفنون ومتاحف من أجمل متاحف العالم، فقد أنفقوا ثروات على هذه المجالات، لكن في نفس الوقت، عندهم اهتمام بالشخص العادي، وبالتالي، لا نندهش عندما نجد أجزاء كبيرة جدا من الثقافة الأمريكية تلاقي قاعدة كبيرة من القبول. ولكنهم يفرقون بين السلع المطروحة والقابلة للاستهلاك والتغيير والتطوير وتكوين النظرة الثقافية. والسؤال الذي يفرض نفسه بالنسبة لنا، كيف سنتعاون مع أنفسنا ومع العالم العربي لصياغة سياسة تستطيع أن تتفاعل مع هذا الواقع؟ والإجابة أننا لابد أن يكون لدينا نحن أيضا المصلحة الذاتية المصرية، مثلما هناك دائماً نظرة تنطلق من المصلحة الذاتية الأمريكية. وهذه المصلحة المصرية ستنطلق أولا من ذاتها ثم من المنطقة العربية، ثم من الدول النامية ثم تتفاعل مع العالم، فالأمر يتسع بهذه الصورة. وعلينا أن نبحث عن هذه المصلحة المصرية، ممكن أن نجد أوجه للاتفاق تساهم في التعاون وهناك نقاطا سنختلف عليها إلا أن العمل في منظومة يستدعي ألا نبدأ في تخوين بعضنا البعض، وألا يكون عندنا هذه النظرة الأحادية، أنت معي أم ضدي؟! فجميع الدول تبحث عن مصلحتها، هناك منظومة مصالح وهناك مؤسسة تعمل هناك لصيانة هذه المصالح. وأتذكر جملة “تشرشل” الشهيرة - وهو الذي كان من كبار أعداء الشيوعية - عندما عقد اتفاقاً مع “ستالين”، قال إنه “يمد يده إلى الشيطان”، كما قال: “ليس لدينا أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، لدينا مصالح دائمة فقط”. وقد رد “تشرشل” بهذه الكلمة على من هاجموه باتفاقه مع من كان يعاديهم فقال لهم: “مصلحتي أن أفتح جبهة شرقية وأن أساند روسيا ضد ألمانيا”. فهذه النظرة البراغماتية موجودة، ولكن المهم كيف سنتعامل معها؟ لابد أن نرسم لأنفسنا وضوح رؤية، ووضوح الرؤية لن يتم إلا بالحوار، ولابد أن يكون هذا الحوار منفتحا وأن نكون مستعدين لأن نختلف مع بعضنا البعض، فالمساءلات والخلافات واردة. ولكن في النهاية سينتهي على سياسة عامة وعندما يتم الاتفاق سنسانده لأن هناك قناعة به وإذا انحرف بصورة كبيرة نعود لنقوِّم هذا الاتجاه أيضا بالحوار والمشاركة.. نحن نتعامل مع ثقافة مغايرة لنا، فيجب أن ننفتح ونأخذ ما نرغب ونترك ما لا نرغب، مثلما يفعلون، والمسلمون في القرن السابع كانوا كذلك، فعندما وجدوا فكر “أرسطو” و”أفلاطون” و”سقراط”، لم يقولوا إنهم كفرة، ولم يمنعوا كتبهم، بل ترجموها وشرحوها، ثم جاء “الفارابي” وأخذ منها ما يناسب لبناء ما عُرِف فيما بعد بالفلسفة الإسلامية، وترك منها ما لا يناسب، فهذا النوع من التعامل المفتوح موجود في أمريكا لأنها حاليا قوة مُهيمنة ومُنطلقة وعندها هذا الاستعداد أن تنفتح تجاه الجديد، لا يهمها، ما لا يعجبها لن تأخذه وما سيعجبها ستأخذه. بقلم: إسماعيل سراج الدين