أنظار الأوروبيين تتجه صوب تركيا مع سؤال كبير: ماذا تريد تركيا؟ هذا السؤال يكاد يخفي بالكاد قلقا متعاظما لدى المعنيين، لمعرفة إلى أين تريد أن تصل تركيا في تقاربها مع العالمين العربي والإسلامي. وهذا ما يتم طرحه بأشكال عديدة، وعلى مستويات عديدة أيضا في أوروبا اليوم. ليس سرّا على أحد أن تركيا تعيد منذ سنوات صياغة توجهاتها الدبلوماسية، وتراجع نهجها السياسي كلّه، بما يمكن التعبير عنه بالخط العريض بجملة واحدة، هي: الابتعاد عن الغرب والالتصاق أكثر بمحيطها العربي والإسلامي. نقطة الانعطاف الأكثر بروزا في الإعلان عن هذا النهج الجديد، كانت في قرار البرلمانيين الأتراك عام 2003 عدم السماح لجنود المارينز الأمريكيين باستخدام الأراضي التركية للهجوم على العراق من الشمال. كانت إشارة قوّية وواضحة، مفادها أن تركيا، رغم أنها عضو تاريخي في الحلف الأطلسي، لها صوتها وتريده أن يكون من رأسها وخدمة لما تراه مصلحتها الاستراتيجية. ثمّ توضّحت معالم الصورة أكثر فأكثر، عبر العديد من المواقف التي لم يكن أقلّها بلاغة الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على غزّة، الذي بدأ في ديسمبر عام 2008 واستمر إلى جانفي من عام 2009. ثمّ الإعلان عن اتفاق تركي برازيلي إيراني في الشهر الماضي، حول تسوية تتم بموجبها مبادلة اليورانيوم الإيراني بكميات من اليورانيوم المخصّب، بحيث تجري المبادلة على الأراضي التركية. ومؤخرا جاء رد الفعل التركي العنيف على قتل إسرائيل لمواطنين مدنيين أتراك، من المشاركين في قافلة الحريّة التي كانت في طريقها إلى غزّة بمهمة إنسانية. ثلاثة مواقف بين عديدة أخرى، في إطار نهج عام يرى فيه الأوروبيون خطرا مزدوجا: من جهة، بدا أن هناك تقاربا دبلوماسيا تركيا مع إيران، في الوقت الذي كانت فيه الدول الكبرى، وبضغط أمريكي وأوروبي أساسا، تحضّر لفرض عقوبات جديدة على إيران باسم المجموعة الدولية. ومن جهة أخرى، بدا النهج التركي الجديد يميل للعداء أكثر فأكثر حيال إسرائيل، رغم الاتفاقيات العديدة الموقّعة بين الطرفين. وفي كل الحالات كانت المواقف التركية محسوبة بدقة، بحيث لم تترك المجال أمام الأوروبيين لتوجيه نقدهم الصريح لمواقفها، وحتى بالنسبة لأكثرها إثارة لقلقهم. فليس من السهل انتقاد المسعى التركي لنزع فتيل الملف النووي الإيراني سلميا؛ فهذا مطلب الجميع، ولم تفعل تركيا حيال قتل مواطنين أتراك كانوا يستقلون سفينة في المياه الدولية في عرض البحر، سوى أنها مارست حقّها السيادي الذي قد تمارسه، بل ينبغي أن تمارسه، كل دولة في الدفاع عن مواطنيها. كذلك، لم يتوقف القادة الأتراك عن التأكيد منذ البداية، أن بلادهم لم تغير أبدا من تطلعها الاستراتيجي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. هذا ما قاله صراحة وبوضوح لا لبس فيه رئيس الجمهورية التركي، عبد الله غل قبل أيام، في لقاء نظّمه ”مركز البوسفور” في اسطنبول وحضره ممثلون عن العالم الغربي، وجاء فيه ما نصه: ”ينبغي أن لا يعتقد أحد أن تركيا قد بدّلت من توجهها الاستراتيجي”. ثم ذكّر الأوروبيين بأن مسألة انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي لاتزال الهدف الأساسي لتركيا، ودعاهم إلى ”عدم خلق مشكلة حيث لا توجد مشكلة”. وفي مواجهة النهج التركي الواضح في اتجاه وفي آخر، يردد الأوروبيون بأشكال مختلفة دعوة تركيا للتصرّف ك ”شريك أساسي” للاتحاد الأوروبي. وهذا ما ذكّرت به فرنسا في اجتماع مجلس وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي ال 27، الذي انعقد يوم 14 من جوان الجاري للبحث في الإجراءات المطلوب اتخاذها لتخفيف الحصار عن غزّة. وهو ما يعني عدم الابتعاد عن المواقف الأوروبية. وهذا ما ترجمه سكرتير الدولة الفرنسي للشؤون الخارجية، بيير لولوش، في لقاء ”مركز البوسفور” بالقول إنه ”لابدّ لتركيا وإسرائيل من تخفيف حدّة التوتر بينهما، وأن تبرهنا على حسّ المسؤولية”. حسّ المسؤولية ترجمه المسؤول الفرنسي مباشرة بمطلبين؛ الأول هو الابتعاد عن فكرة قطع أنقرة للعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل كما كان قد طرح الرئيس التركي كإحدى الإمكانيات. والثاني هو أن تبقى تركيا ”على تفاهم” مع الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن حيال الملف النووي الإيراني. هذان المطلبان يعبّران بامتياز عمّا يريده الأوروبيون من تركيا، ليس حبا لها، ولكن تعاطفا مع إسرائيل بالدرجة الأولى، وخوفا من التهميش الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط. لكنهم تجاهلوا أن تركيا تجني بوضوح فوائد نهج عمره أكثر من عقد، إذ أصبح الأوروبيون والعالم ينظرون إلى تركيا باحترام أكثر، ولم يعد يتم التعامل معها كمن ”يستجدي” الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بيير لولوش عبّر عن مثل هذه الحالة بالقول ”إن تركيا تجد اليوم أكثر من أي يوم مضى السبيل كي تكون جسرا بين الشرق والغرب”، لكنه حرص على عدم تحديد إلى أي العالمين تنتمي، وهنا تكمن معضلة أوروبا مع تركيا التي تعرف، في المقابل، ماذا تريد تماما. بقلم : د. محمد مخلوف