منحت أشرطة ال 35 ملم للسينما، في أوج عطائها، صورة منفردة عن قاعات العرض في وقت كان فيه ولوج هذه الأخيرة في الجزائر يعرف طوابير لا نهاية لها، صنعتها جاذبية الشاشة الكبيرة ورقي العرض الذي ينسج خيوطه رجال خفاء أردنا رفع الستار عن واحد منهم، كاعتراف منا لما بذله رجال الخفاء في خدمة جمهور عريض طالما اختلفت أذواقه حليم محيوز، أو عمّي حليم، واحد من هؤلاء الذين صنعوا مجد دور العرض ردحًا من الزمن، جزائري من عائلة بسيطة وربّ عائلة لم تمنعه سنّه المتقدمة من مواصلة العطاء رغم تغير موازين وظروف العمل. ”عمّي حليم”.. من أنامله تعبر الفُرجة التقيناه صدفة بسينما ”الجزائرية” ونحن بصدد البحث عن من يقرّبنا أكثر من هذه التقنية السينماتوغرافية، ولأننا أردنا سماع التفاصيل من شخص حاكى آلة التدوير مطولا، نصحنا عامل الاستقبال بالتوجه الى السيد محيوز قائلا : ”أنتم محظوظون اليوم لأنه لا أحد يستطيع أن يفيدكم أكثر من السي حليم رغم أنه متقاعد”.. لم نعلّق على ذلك، لكننا سرعان ما أدركنا أن زيارتنا الى ”الجزائرية” منحتنا الفرصة للاقتراب من رجل مهووس بالسينما وعاشق لآلة العرض. بكل تواضع وترحيب استقبلنا واصطحبنا إلى غرفة التحكم التي لا تتسع سوى لشخص واحد، وهو ما اضطره إلى أن يقدم لنا الكرسي الوحيد المتواجد بالغرفة. ترجيناه أن يجلس فرفض وأصرّ على البقاء واقفا بحجة أنه معتاد على العمل هكذا وقال مُمازحا : (لقد أمضيت أكثر من نصف العمر وأنا واقف؛ فكيف لي أن لا أقف اليوم). ما كان يميّز المكان هو كثير من الفوضى قليل من التنظيم.. جهاز حاسوب وبعض الأسطوانات الموضوعة في زاوية الغرفة والتي يوحي مظهرها بأنها أشرطة أفلام لم تستعمل مند أمد طويل، بالإضافة إلى آلة ضخمة تتوسّط المكان. ودون ما نسأل وضع عمّي حلم يده فوقها وبادرنا بالقول : ”ياحسرة؛ هذه كانت هي الكل في الكل هنا.. كانت عروس المكان”. السينما .. غنيمة حرب أول سؤال استحضرنا هو أن نستفسر عن الحسرة التي كانت تطبع محياه وهو يداعب آلته العجوز، فرد بابتسامة ”لِمَ الاستعجال سأجيب لاحقا”. سلاسته في الكلام تعبّر عن حبه الكبير لمهنته التي يعشقها كما عشقه للأفلام السينمائية التي لا يزال يحفظ عنها أدق الأمور، كيف لا وهو المُولع بالسينما حتى النخاع، لدرجة أن بدأت أنامله تداعب أشرطة الأفلام السينمائية منذ الطفولة. وبدل أن نسأل نحن بادرنا هو بطرح سؤاله : ”ما الذي تريدون معرفته؟ فأجبناه أن تبدأ من البداية عندها وضع يده على جبينه وقال: ”إيه ستعودون بي إلى تلك الأيام الحلوة المرّة”، طلبنا منه التوضيح أكثر فاسترسل في الكلام :”هي أيام حلوة لأنها تذكّرني بالصبا الذي لا تضاهيه أي حلاوة، لأن تعلّقي بالآلة السينماتوغرافية بدأ مبكرا جدا وبالضبط الى الحقبة الاستعمارية عندما كنت أتردد على دور السينما يوميا بعد خروجي من المدرسة، ليس لمشاهدة الأفلام بالطبع، لأنني لم أكن أحتكم على فلس واحد وإنما لمساعدة الفرنسيين القائمين على شؤون السينما آنذاك ولم يكن عمري يتجاوز العشر سنوات.. قاطعته : هذا بوصفها حلوة، فماذا عن المرّة؟ فأجاب: هي مرّة لأنني اضطررت إلى تعلم المهنة خلسة، فلم يكن يسمح لنا وقتها بالنظر عاليا مما اضطرني إلى خدمة المستعمر في سبيل بقائي قريبا من قاعات العرض، وشيئا فشيئا منحني احتكاكي الدائم بمسيري الآلات فرصة تعلم مبادئ العمل على الآلة السينماتوغرافية بأدق التفاصيل بما في ذلك أمور الصيانة. تعلقُ عمي حليم بآلة التدوير لم يكن عشوائيا والفضل في ذلك يعود إلى الشاشة الكبيرة، لأن انبهاره بها - كما قال - دفعه إلى التضحية بكل شيء في سبيل معرفة مصدر ما يعرض عليها من صور، حيث إنه طالما تساءل في المرات القليلة التي ولجت فيها قدماه دورا من دور العرض عن مصدر تلك الصور التي كانت تظهر على الشاشات الكبيرة، وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما أدرك ذلك السحر، كان مصدره أشرطة لا يتعدى عرضها 35ملم، ملفوفة على أسطوانات يتم تمريرها داخل آلة العرض عن طريق انعكاس الضوء.. استمر عمّي حليم بالعمل مع المستعمر إلى غاية الاستقلال وبعد استرجاع الدولة لقاعات السينما تم استدعاؤه من طرف المجلس الشعبي البلدي الذي كان وصيا على دور السينما في تلك الفترة، ليعمل كمسير لآلة العرض لفترة تربصية دامت سنة بعدها تمت ترقيته إلى مساعد مسير آلة لمدة سنتين وفي الحالتين لم يكن يتقاضى أي أجر. سنة 1972 اجتاز اختبار إثبات الكفاءة في سينما ”كازينو” بشارع العربي بن مهيدي وتم قبوله للعمل كمحرك على الآلة السينماتوغرافية، هذه الأخيرة التي ضحى لأجلها بكل شيء في سبيل البقاء قريبا منها. ”لابراتيك خير من لاتيوريك”.. هكذا تحدّث ”الرازي” يعترف محدثنا أن ما أخذه خلسة عن المستعمر، لم يكن كافيا للتحكم الجيد بآلة التدوير، مما استدعى قيامه بعدة تكوينات تطبيقية. وبذكر هذه الأخيرة توقف عمي حليم وأخد نفسا طويلا ثم استطرد قائلا: ”الله يرحم شيوخي، الفضل الأول والأخير يعود الى الشيخ بايري رحمه الله الذي ألقبه بشيخ السينما، حيث كان يعمل وقتها بسينما ”الكاميرا” التي تعرف اليوم بقاعة سينما الرازي.. مهما قلت فلن أوفيه حقه ولا يمكنني أبدا نسيان فضائله وهو الذي تفانى في تلقيني كل شيء عن الآلة السينماتوغرافية، وأعترف اليوم وهو غائب عنا بأنه انتهج معي أسلوب الأب المربّي الذي يحرص على تعليم ابنه بكل حب، وما ساعدني على التعلق أكثر بالآلة السينماتوغرافية، هي الثقة التي منحني إيّاها والتي أثمرت بتحملي المسؤولية في سن مبكرة”. ويواصل عمي حليم حديثه ”ما تعلمته مع الشيخ ”بايري” أيضا، هو أسلوب التدوين لأنه كان يقول لي دوما إن التدوين أفضل وسيلة لترسيخ المعلومة، لدرجة أنه كان يجبرني على كتابة كل ما أتعلمه خلال اليوم ويوصيني بمراجعته في الليل”. ولأنه ليس ناكرا للجميل، لم يتردد عمّي حليم في ذكر خصال أستاذه الثاني سليمان الرازي، الذي ساهم إلى أبعد حد في تكوينية التطبيقي على الآلة السينماتوغرافية، لدرجة أنه لا يزال يذكرعبارة كان يردّدها عليه شيخه باللغة الفرنسية ودوّنها كما هي بالعربية ”لابراتيك خير من لاتيوريك يا وليدي”. الأميرة ”كرستيا” تطيح بعرش الملكة ”أونيفارسال” ولعُ عمي حليم بالأفلام السينمائية التي كانت تعرض في تلك الفترة وعلى رأسها الأفلام الهندية جعله يتعلّق أكثر وأكثر بغرفة التحكم السينماتوغرافية، رغم مشقة العمل بها، عندما كان التحكم بالآلات يدويا. وفي هذا الصدد، يقول عمّي حليم:” في السابق الآلة الوحيدة التي كانت تستعمل في كل القاعات هي ”أونيفارسال” التي لا أثر لها اليوم ثم جاءت ”واس تراكس”، لكنني أفضل الأولى على كل التكنولوجيات المستعملة اليوم، خاصة وأنها تستعمل أشرطة 35ملم التي أعتبرها الأفضل على الإطلاق. كما أن العمل على هذه الآلة يشعرك بالمتعة، لأنها تبقيك متفطنا لكل تفاصيل العمل وتجبرك على تتبع أدق حركاتها مما يجعل العمل مرهقا لكنه أكثر جاذبية”. أما عن طريقة عمل آلة ”أونيفارسال” التى لازمت عمي حليم 35 سنة فهي كالتالي: الآلة تتكوّن من هيكلين كبيرين منفصلين لهما نفس الدور، يعملان بالتناوب بالإضافة إلى ملحق خاص بالأسطوانات، يتم تشغيل الآلة بواسطة صفيحتين من الكربون مغلفتين بالنحاس إحداهما تمثل القطب السالب والأخرى الموجب، وعند ملامسة القطبين لبعضهما تنطلق شرارة نارية تبلغ درجتها 1200 درجة ضرورية لإشعلال الضوء الخاص بالآلة والذي يعطي انعكاسا في المرآة الموجودة داخل الآلة ومنه على شاشة العرض”. ويواصل عمي حليم شرحه قائلا :”إن هذه العملية تكون مسبوقة دوما بالتحضير للعرض الذي يشمل مراقبة أضواء القاعة وكذا نوعية الصوت بالإضافة الى تفحص الآلة لتفادي أي خلل أثناء العرض، والأهم من هذا كله التفحص الدقيق للأشرطة الذي يتطلب متسعا من الوقت على اعتبار أن الفيلم الواحد يتكون من ثلاث الى تسع أسطوانات وقد يتجاوزها أحيانا حسب مدة الفيلم، حيث تستغرق كل أسطوانة في العرض حوالي 17 دقيقة على الأكثر، ناهيك على أن العملية تتم يدويا بتمرير الشريط بين أصابع اليد لتفحص التلف الذي قد يصيبه ومعالجته بقطع الجزء الممزق وإعادة إلصاقه مما يستدعي الاستغناء عن صورة واحدة وهذا لا يضر الفيلم لأن هناك 24 صورة في الثانية الواحدة. عندما يأتي موعد العرض يتم إفراغ الشريط الأول من الفيلم على أسطوانة العرض، ثم إشعال الآلة الأولى بالطريقة السالف ذكرها، وهنا يجب على المسير أن يراقب الشرارة النارية كل 6 أو 7 دقائق للحفاظ على اللهب وتفادي توقف الآلة. وقبل نهاية الشريط الأول بحوالي ثلاث دقائق تظهر ثلاثة مؤشرات على الجهة اليمنى أعلى الفيلم وبمجرد بروز العلامة الأولى يتم إشعال الآلة الثانية بنفس الطريقة ومع المؤشر الثالث يبدأ عرض الشريط الثاني للفيلم وهكذا دواليك حتى نهاية الفيلم”. الملاحظ اليوم أن كل هذه المراحل تم اختصارها مع العلامة الأمريكية ”كرستيا” المستعملة حاليا بدور السينما وهي ثنائية العمل يدوي وأوتوماتيكي ونوعية الصوت بها ثلاثي الأبعاد، فالعمل بواسطتها لخص عديد المراحل، حيث يرتكز أساسا على تفريغ كل الأشرطة فوق قالب خاص بعد تفحصها بواسطة آلة صممت لذلك، وعند موعد العرض ما على محرك الآلة سوى الضغط على الزر ليبدأ الاستمتاع بالفيلم. ل م ينف مستضيفنا أن ظروف العمل في الماضي كانت شاقة بالنظرالى الأضرار التي يخلفها احتراق الكربون في غرفة صغيرة مهواة نسبيا، مما يعرّض العاملين بها إلى عدة أمراض منها ما يصيب العينين كضعف البصر وأخرى تتعلق بالجهاز التنفسي خاصة الرئتين، وهو ما كان يشخّصه الأطباء في كل فحص طبي سنوي. لذلك كان ينصح العاملين في هذا المجال بشرب لترين من الحليب يوميا للوقاية من أي خطر. اليد التي تُحرّك الفرجة 40 سنة تأبى أن تستريح عندما منح تسيير دور السينما للخواص سنة 1986 لم يجد السيد محيوز ضالته في ظل ما وصفه بالفوضى آنذاك، مما اضظره إلى العمل كمشرف على قاعة العرض مدة سنتين لا أكثر، أوكلت له خلالها مهمة تعليم مجموعة من الشباب، كما ساهمت عوامل أخرى في إبعاده عن مهنة حياته أهمها غياب التأمين وعدم التصريح بالعمال وكذا التأخر في دفع الرواتب. وما زاد الطين بلة، هو تخلي دور العرض سنة 1988 عن خدمات مسير الآلة السينماتوغرافية بسبب اعتمادها العمل بالأقراص المضغوطة بدلا من أسطوانات الأفلام، لتغيب بذلك آلة العرض السينماتوغرافية عن دور السينما نهائيا في الجزائر، ويغيب معها عمي حليم الذي ركن إلى راحة امتدت طويلا بتعاقب الأحداث خاصة مع الظروف الأمنية التي كانت تعيشها البلاد سابقا والفراغ السينمائي الذي ميز تلك المرحلة. ابتداء من سنة 2000 عادت إلى الواجهة مجددا مهنة محرك على الآلة السينماتوغرافية لتنتقل إلى جيل الشباب من خريجي السمعي البصري، وعاد معها عمي حليم ليستمتع بمهنته التي افتقدها مطولا، لكن لا الزمان نفسه ولا الجيل أيضا. وبالحديث عن الجيل الجديد للسينما، يرى محدثنا أن التكوين الحالي لا يخذم مهنة التدوير على الآلة السينماتوغرافية، لأنه يرتكز بالدرجة الأولى على الجانب النظري ولا يعطي الأهمية اللازمة للممارسة التطبيقية التي تضع الشخص في احتكاك دائم مع الآلة، مما يكسبه القدرة على التحكم الجيد في الآداء وكذا الفعالية في تقديم عرض يلبي رغبة الجمهور الذي حضره، بالإضافة إلى اعتماد شباب اليوم على التكنولوجيا التي نأت بمهنة محرك آلة العرض عن مسارها خاصة مع إدخال نظم الإعلام الآلي ولواحقه المتطورة مثل الأقراص المضغوطة وغيرها في عمليات العرض السينمائي. ما يزال عمي حليم اليوم وهو يشارف على السبعينات يعمل، بعدما فرضت عليه الضرورة القصوى التي تعود بالدرجة الأولى إلى المعاش القليل الذي يتقاضاه شهريا والذي لا يكفيه حتى لضروريات الحياة مما لا يعطيه مطلقا حق التفكير في الكماليات، أما السبب الآخر فراجع لفقدان مختصين في هذا المجال لذلك لم تستغن سينما ”الجزائرية” عن خدماته وهو ما يفسر تعاقد إدارتها معه رغم تجهيزها بتكنولوجيا متطورة عمّا كانت عليه في السابق. الأكيد أنه مهما بلغ التطور التكنولوجي أرقى درجاته، لا يمكن للسينما أن تستغني عن آلة التدوير السينماتوغرافي التي تتقبل فكرة التطويرلكن ليس التعويض، على اعتبار أن التوأمة بين السينما وآلة العرض أشبه بتوأمة الصورة والصوت داخل الفيلم مكملان لبعضهما لا يمكن الاستغناء عن أي منهما ليكتمل المشهد لدى الجمهور المتذوق للسينما والعاشق للشاشة الكبيرة. في ختام الصدفة التي قادتنا إلى ذكريات عمّي حليم، تركنا لهو الكلمة، ليعرب لنا عن أمله في أن يعاد إحياء بعض الأفلام القديمة بطريقة العرض التقليدية باستعمال آلة ”أونيفارسال” ليستمتع بها كمشاهد من على مدرجات السينما لا كمحرك على الآلة السينماتوغرافية.