مما لا شك فيه أن مسار أدب أي شعب من الشعوب، يمر بعدة مراحل. أول مرحلة هي التأسيس أو ما يسمى بكتابة الروّاد، أي الأوائل الذين يؤسّسون للكتابة. والحديث في هذا الشأن عن الكتابة في الجزائر، يجعل المتبصّر في أدبها يلاحظ أنه رغم قصر المدة الزمنية التي تفصلنا عن الرواد إلا أن جيلا جديدا من الكتّاب والأدباء الجزائريين تجاوزوا أدب الريادة -التجاوز هنا بمعنى التضمين والتطوير والتجديد - فالقطيعة تواصل في هذا المضمار: ذلك أن الهوية الجزائرية قاسم مشترك مع ما كتب من قبل، لكن الصيغة والرؤية تختلفان، لأن الواقع لم يعد كما كان والكاتب ليس هو ذاك الذي كان. وهذا ما يتجلى واضحا في كتابة الشاعر الجزائري الهواري غزالي الذي أصدر ديوانه الشِّعري الجديد الذي يحمل عنوان "أناشيد النُّبوءات المتوحِّشة" عن دار تيمقاد للنَّشر لسنة 2009 وبدعم من وزارة الثقافة الجزائرية. الديوان يعتبر بمثابة تجربة جديدة في مجال الكتابة الشعريَّة، حيث يحاول أن يجمع بين أدب الرِّحلة كخط استقصائي للمكان، المرثية كتواجد روحي والبحث عن تخليص الذَّات الشاعرة من وطأة الغربة والوحشة. يقع الديوان فيما يقارب مئة صفحة، وينقسم إلى أربعة أجزاء، كلُّ جزءٍ مخصَّصٍ لتجربة خاصة. كتب الشَّاعر نصوصه من مواقع مختلفة من العالم، الجزائر، فرنسا، وسوريا، وتتناول كتابته شخصيَّة الأمير الجزائري الذي تمَّ اعتقاله وسجنه لمدة خمس سنوات بفرنسا أثناء بداية الاستعمار الفرنسي بالجزائر. كل ذلك يلتقي به الشَّاعر في عين متأملة وأفق رائي يفتش من خلالهما عمّن يشبهه أو عن أماكن لا زال بها رائحة الأسلاف. يحمل الجزء الأوَّل من الديوان عنوان "معسكريَّات أو الهجرة في ليل المعنى"، وهو مقطع يتناول بعض حالات الأمير وهو بالجزائر إبَّان المقاومة. أما الجزء الثاني الذي يحمل عنوان "أيلماس بوشاح سيرطا والرومان على العتبات" فهي قصيدة مطوَّلة تغوص في تاريخ المقاومة الأمازيغية للجزائر أثناء التواجد الروماني وهي قصيدة كتبت في فترة سبقت الحرب الإسرائيلية على لبنان ببعض الأشهر ونشرت على موقع إيلاف الذي يشرف عليه عبد القادر الجنابي. الجزء الثالث المعنون ب"فتيل الجسد المنصهر بالخديعة" فيغامر في رحلة صاحبت مراحل إقامة الأمير بمعاقله بفرنسا، بدايةً من مدينة بو إلى غاية مدينة أمبواز. أمَّا الجزء الأخير، فهو خاتمة للتَّقصي الرُّوحي لذلك اللقاء الذي جمع الأمير بالشيخ الأكبر بدمشق. في هذا الديوان تخليد مستمر لحالة المنفى وتبجيل لكينونة المقاومة. بالعين الخبيرة بالرُّؤيا، تأخذ الغربة في شعر الهواري غزالي أبعاداً مختلفةً. فاختيار منافي الأمير في فرنسا لم يكن عبثاً، فالشاعر يرى أن لها علاقة بتاريخ فرنسي طويل مع العرب. يعتقد الشاعر أيضا أنَّ الأمير كان يحسُّ تماما لماذا سجن بِمدينة بو التي لا تبعد عن جبال البيريني، معبر العرب نحو فرنسا أيام الأندلس، ويحسُّ أيضا لماذا سجن بمدينة أمبواز التي خسر بقربها العرب معركة بواتييه. اختيار معاقل الأمير على هذا النحو له دلالة انتقاميَّة تاريخيَّة من العرب الذي كان يمثِّلُ آخر كرامتهم الأمير عبد القادر الجزائري أثناء الحملات الاستعماريَّة المتواصلة. لكن في هذين المعتقلين كما في جميع الأماكن التي مرَّ بها الأمير، كان هناك شيء يقتسمه الفضاء الخارجي للمكان. فبعين الإحساس، يتحدَّث الشاعر عن أنَّ الأمير كان يختار لنفسه في كل مكان يعيش فيه نافذةً تطلُّ على الخارج، وهذا الأمر طبيعي، لكنَّ الفضاء الخارجي غالبا ما كان هناك نهر يشقُّه. ففي مدينة بو كان الأمير يجد نفسه أمام نهر لاغاف الذي ينحدر من أعالي جبال البيريني، أما في أمبواز فنهر اللوار الذي يشق فرنسا من ستراسبورغ إلى المحيط كان يعبر أمام نافذته. الأمر نفسه لاحظه الشاعر في قصائد الأمير وهو يصف مدينة بورسا التركية التي أقام بها وهو في طريقه لسوريا، فقد امتدح نهر جكركه بقصيدة أوردها الشاعر بالديوان. أما دمشق، فبيته بدمَّر لم يكن يخلو من هذا الكائن المائي، بل كانت أغلب نوافذه تطلُّ على منحدرٍ يجري فيه نهر بردى. كل هذه المعطيات تدلُّ على أنَّ الأمير كان يعيش في زمنٍ متوقف، في زمن ساكن بين جدران المعتقلات والمنافي، لكنه كان هناك شيء يتحرَّك، كان هناك نهر، كانت هناك روح. تحتوي المقاطع الأخيرة من الديوان على حوارات بين الأمير والشيخ الأكبر، وهي تعتبر كاستمرار لحالة العنفوان الروحي التي تميَّز بها الأمير طيلة حياته. يقول الشاعر في قصيدة التفاتة متحدثا عن الأمير: ملتفتا لِصُراخِ الهاوياتِ تحت شرفةِ الخيْبَةِ / لِضغِينة البَردِ / لفَرائسِ الثَّلج / لمواقعه الأخيرةِ / في سَمَاءٍ نَجمُها ذاكراتُ الشَّتات / لحدائقِ اللَّعنة / لسَمَاءٍ مكتظَّةٍ بِشَهوةِ الآلام / لأَمكنَةٍ لا يُؤَثِّثُها سِوى الفَراغْ / لنَوَافِذَ تَحْضُنُها عينٌ مفتوحةٌ على نبوءَةٍ خائبة / لأنْفَاسٍ في القلعةِ لا رواق يوحِّدُ أطراف صحرائها / لأَحجارٍ مسفوحةٍ تحت أقدامِ القُوَّةِ / لِعَرَبَاتٍ تجرُّ خلفَها هودج القبائل / للغافقيِّ المقتولِ / لهزيمةٍ أوقفوه بها والشَّاهدُ النَّهرُ / لجميلةٍ احترقت أصابعها بمكحل الاعتقال / فارتعشت أظافر الكون / وانتبهتْ لأنيابِ الخرائبِ / فرائصُ الوجود / لِنِساءٍ يَسْتَيْقظنَ في زوبعاتٍ مخلوطةٍ بجليد الغربةِ / لِصِبيَةٍ خانتْهم عرصاتُ الطُّفولة / ليسَ لهم بعد الرَّملِ والصَّحراء من تهافتٍ غنجٍ سوى أحجارٍ يطلُّونَ من فوقها على أرضٍ سوداءَ شوارعها كأنها وديان الملح / ملتفتاً لكلِّ شيءٍ / قبلَهُ وشمٌ عالقٌ برجفةٍ في الجفون / بعدهُ قلبٌ قدْ يرى ما لا تراه العيون. إن القراءة الشعرية أصبحت تدرك اليوم بالعين لا الأذن، فإن المتصفح لديوان الهواري غزالي، تثيره لأول وهلة كتابة المحو: أي لعبة البياض والسواد في صفحات الديوان، بحيث يشعر القارئ وكأنه أمام لوحة/لوحات فنان تشكيلي أو معرض جماعي للفن التشكيلي. لم يعد عنده ذلك التوزيع الكلاسيكي، بل إن كل قصيدة ترسم بل لها ريشة خاصة ترسم نفسها على الصفحة التي تريدها كيانا لها. كما أن اليسار عنده أصبح يمينا واليمين شمالا. لك أن تعيد القراءة بالشكل الذي تريده عينك. وعند القراءة نجد المكان ينساب من بين أصابعنا كما الماء من الشلال ليرسم بعدها مجرى جديدا وأخاديد صعبة الرواية. ذلك هو ما جاء به جديدا في كتابته الشعرية الهواري غزالي الشاعر/الكاتب الجديد. بقلم: عبد الرحمان مزيان