"الجوع، هو تلك الحاجة الفظيعة التي تمسّ الكائن كلّه، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق إلى الامتلاء الطوباويّ، بل إلى تلك الحقيقة البسيطة: فحيث لا يوجد شيء أتطلّع لأن يكون ثمّة شيء".. أتساءل: كيف لابنة سفير، وُلدت وفي فمها ملعقة ذهب، زارت أغلب عواصم العالم، كيف لها أن تعرّف الجوع بهذه الطريقة؟! إنها الكاتبة البلجيكيّة غريبة الأطوار، آميلي نوثومب، صاحبة رواية "بيوغرافيا الجوع"، والتي اعتبرها من أهم الأعمال الأدبية التي تُرجمت إلى العربية في السنوات الأخيرة. تقوم آميلي في هذه الرواية باصطفاء ذكرياتها في كلّ مدينة حلّت فيها، مع أسرتها البرجوازية. وكانت وهي تكتب عن كلّ ما صادفها وكأنها تُؤَرْشِف في ذاكرتها ذاكرات عدّة، أولاها وأهمّها ذاكرة الجوع. آميلي كتبت على غلاف روايتها الخلفيّ "الجوع هو أنا". وهذا تعريف من بين تعريفات كثيرة للجوع في روايتها، وهي بذلك ترتقي بنفسها إلى مرتبة الجوع، لأنّه يسمو بها إلى مرتبة "الألوهة"، كما تكرّر في أكثر من مكان في روايتها.. وكأنّها تغدو بذلك إلهة، أو كأنّ "الإله هو الجوع، باعتباره القوّة الضاغطة على البشر، يسيّرهم على هواه، ورغمًا عنهم، ذلك أنّهم عندما يجوعون يكونون مستعدّين لارتكاب كلّ شيء، واقتراف كلّ الحماقات".. من النادر أن أقرأ لمن يكتب بقلم من ذهب، عن أشياء تخصّ الفقراء، أراه كمن يأكل "الكرنطيطة" بالشوكة والسكين، لكن فلسفة آميلي عن الجوع، أقنعتني بشكل لا أقول إنه غيّر نظرتي لمفهوم الجوع، لكنه وسّّع أُفق الجوع بالنسبة لمنطقي، خارج حدود "ليسطومة".. للجوع إذن، مفاهيم شتّى.. فجوع بورجوازية آميلي، لا يشبه جوع بؤساء هيغو، وجوع ياسمين نزار قباني، لا يشبه جوع خبز شكري الحافي، وطوى عنترة العبسي لا يشبه طوى عروة بن الورد.. وجوع شباب باب الوادي وساحة أول ماي لا يشبه جوع سعيد سعدي وأتباعه..