الاضطرابات الاجتماعية التي تجتاح البلاد منذ سنوات لا تدل فقط عن توتر اجتماعي تعرفه البلاد ولم يعالج بالجدية المطلوبة من طرف السلطة، بل يدل أيضا على أن الحكومة هي التي ساهمت في تأجيج هذه الاحتجاجات بسوء إدارتها لهذه الاحتجاجات. أغلب الاحتجاجات الاجتماعية هي من صنع السلطة لأنها فتحت الباب لها على مصراعيه من خلال المعالجة الخاطئة لموضوع الأجور وموضوع توزيع السكن وموضوع التوظيف في مناصب العمل. هل كان من اللائق، مثلا، أن تعالج الحكومة موضوع الأجور بطريقة قطاعية فتحت المنافسة بين مختلف القطاعات على هذا النحو الذي نشاهده؟! بحيث أصبح عمال كل قطاع يرون أنهم أحق بالأجر الأعلى من القطاعات الأخرى..؟! لماذا لم تنتبه الحكومة إلى خطورة المعالجة الجزئية والقطاعية لموضوع الأجور؟! ولماذا لم تعالج الحكومة موضوع الأجور في قانون شامل وعام كما فعلت ذلك حكومة بومدين في السبعينيات من خلال القانون العام للعامل... بحيث يقوم القانون بتحديد التوازنات العامة للأجور بين القطاعات والفيئات .. ويجنب البلاد فتح هذا السباق المحموم بين الفئات والقطاعات لانتزاع الامتيازات والأجور العالية قياسا بغيرهم؟! هل كان هذا سوء تقدير من الحكومة؟! أم كان الأمر ممرا إجباريا لمعالجة موضوع الأجور؟ إن الفوضى المطلبية التي تعرفها أسواق الاحتجاجات الاجتماعية يدل على أن الحكومة ارتكبت خطأ فادحا في لجوئها إلى معالجة موضوع الأجور تحت ضغط الشارع وعبر الضغوط التي يمارسها المحتجون بواسطة الشارع أيضا..! والأكثر خطورة من هذا هو لجوء السلطة إلى معالجة موضوعات الاحتجاجات خارج إطار المؤسسات المكلفة بإصدار القوانين مثل البرلمان..! فكثيرا ما نسمع بأن اعتصاما لمحتجين قد انتهى لأن رئيس الجمهورية قد أصدر أوامر للحكومة بأن تسوي أوضاع المحتجين في هذا القطاع أو ذاك..! ومثل هذه الطريقة في معالجة موضوع الاحتجاجات هي التي أدت إلى فتح شهية المحتجين في قطاعات عديدة..! وأدت إلى هذه الفوضى التي يعرفها الاقتصاد والشارع والتي أصبحت غير قابلة للتحكم في تسييرها؟! المحتجون توصف احتجاجاتهم بأنها شرعية ومطالبهم مشروعة ومع ذلك لا تعالج هذه المطالب من طرف السلطة بصورة جدية حتى لا يعودون للاحتجاجات مرة أخرى؟ والحكومة التي تؤمر من طرف الرئيس بأن يسوي هذه الوضعية أو تلك هؤلاء المحتجين أو أولئك، لا تسأل عن السبب الذي جعلها لا تقوم بذلك حتى يحتج المحتجون.. وحتى يتدخل الرئيس بأوامره؟! أما البرلمان الذي مهمته مراقبة سن مثل هذه القوانين فلا وجود له ولا يعنيه موضوع الاضطرابات الاجتماعية الخاصة بالاحتجاجات حول موضوع الأجور..! فوضي السياسة التي أعقبت الأزمة الوطنية التي مرت بها البلاد خلال العشرية الحمراء أعقبتها فوضى اجتماعية اقتصادية اجتاحت البلاد وأصبحت تهدد استقراره بصورة دائمة... وقد انعكس كل هذه على المؤسسات الدستورية في البلاد فأصابها الوهن والضمور إلى حد أنها أصبحت مؤسسات شكلية لا علاقة لها بمعالجة أية مشكلة في البلاد سواء اجتماعية أو سياسية أو تشريعية أو تنظيمية... حتى الطريقة التي تسلكها السلطة في توزيع المال العام الفائض عن الحاجة بفضل ارتفاع أسعار النفط هي عبارة عن طريقة الكيس المثقوب، لا يمكن أن يستقر فيها أي دينار مهما ضخت البلاد فيه من أموال؟! الفوضي التي شهدها الاستثمار الوطني والأجنبي.. والفوضى التي شهدتها عمليات التنازل عن أملاك الدولة والخوصصة.. والفوضى التي عرفها قطاع التكفل بما يسمى بالفئات الهشة في المجتمع .. كل هذه المظاهر من الفوضى العامة هي التي أدت إلى فتح شهية المحتجين لأن الدولة الساعية إلى شراء السلم الاجتماعي من المحتجين بواسطة عائدات النفط... هذه الدولة ظهرت بمظهر الضعيف الذي ليس أمامه إلا أن يلبي طلب المحتجين حتى ولو كان فيه من الشطط ما يجعله غير مقبول. حتى موضوع طرق فتح التشغيل أمام المواطنين والشباب فيه من عيوب الفساد ما يجعل هذا الإجراء سببا في حدوث قلاقل اجتماعية عوض أن يكون عامل استقرار في البلاد. فطرق إسناد مناصب العمل بواسطة مسابقات فيها من مظاهر الفساد ما يجعلها سببا في حدوث الاضطرابات والاحتجاجات هي الأخرى تعد أحد الأسباب في الاحتقان الإجتماعي الذي تشهده البلاد. فهل يعقل، مثلا، أن يظل أكثر من 20 ألف أستاذ في قطاع التربية والتعليم يعملون بصورة مؤقتة.. حتى يتدخل رئيس الجمهورية ويقرر ترسيمهم في مناصبهم؟! كيف يحدث هذا ولسنوات ولا يحس المعنيون بالعبثية في تسيير القطاع..! كيف يقدم هؤلاء المؤقتون خدماتهم التعليمية للتلاميذ بصورة مؤقتة لأنهم غيرأكفاء أو لأنهم لا يمتلكون لمواصفات والمؤهلات لترسيمهم ثم يرسمون بقرار بعد أن يحتجوا. إذا تجاوزنا سوء تسيير ملف التوظيف وملف الأجور، ودخلنا في ملف السكن وملف الماء الشروب وملف الطريق فالأمور تكون أكثر سوء..! فالدولة أصبحت رهينة لتسيير ملف توزيع المساكن على المواطنين وليس رهينة لبناء هذه المساكن فقط..؟! باختصار، البلاد تواجه فوضى عارمة مست جميع مناحي الحياة.. ولا يمكن معالجة هذه الأخطار بالمسكنات .. بل لا بد من حلول جذرية تبدأ أولا بإصلاحات سياسية تمكّن الدولة من بناء مؤسسات سياسية دستورية قوية قادرة على تسيير البلد وفق قواعد التسيير الحديثة... وليس وفق شراء السلم الإجتماعي بواسطة الشراء الفوضوي للذمم. المشاكل الاجتماعية لا يمكن حلها بالإجراءات الفوضوية لأن ذلك يجعلها تتحول إلى مشاكل سياسية.. هذا إذا سلمنا بأن هذه المشاكل ليست بالأساس مشاكل اجتماعية ذات طبيعة ساسية.