القابلة هي أول يد تستقبل المولود الجديد للحياة وأول صورة يلمحها. تسخّر حياتها من أجل راحة الغير، متخلية من أجل هذا العمل النبيل عن الكثير من أحلامها وأمنياتها كإنسانة لتقابل بعد ذلك بسمعة سيئة ونظرة فوقية تصورها على أنها “شبح” في قاعة الولادة يرعب النساء الحوامل. لا تخلو قاعات التوليد في أي مستشفى عمومي أو خاص من القابلات اللاتي يمارسن وظيفتهن إلى جانب أخصائيي التوليد، وبالإضافة إلى خصوصية عملهن والمضايقات ومشاكل العمل التي يتعرضن لها، تضطر القابلات لمواجهة نظرة المجتمع الذي يتهمهن في كل مرة بالإهمال والقسوة في التعامل مع النساء الحوامل، هذه النظرة التي تعتبرها القابلات نكرانا للجميل. كل هذه المعاناة حاولت “الفجر” الخوض فيها من خلال التقرب من بعض العاملات في المجال. “وصمة المرعبات” تلاحقهن في كل مكان اشتكت الكثير من القابلات ممن قابلتهن “الفجر” من نظرة النساء إليهن والتي تعتبرهن مرعبات سريعات الغضب وغير إنسانيات، فهذا الانطباع يسيطر على الصورة القبلية التي ترسمها جل النساء الجزائريات للقابلات قبل الولادة أو بعدها. وعن الموضوع تقول إيمان، قابلة منذ ثلاث سنوات بمستشفى برج منايل بومرداس “يكفي أن تسأل أية سيدة بالجزائر سبق لها أن دخلت قسم التوليد بمستشفى عمومي عن القابلات، حتى تبدي أسفا وتذمرا من مستوى المعاملة الذي لقيته، حتى من طرف من لم يسبق لهن الحمل لكنهن سمعن الكثير عمّا حدث لنساء من العائلة أو الجارات أو إحدى الصديقات اللواتي توجهن للمستشفى للولادة”. تضيف صديقتها حنان.ب “أكثر ما يحزّ في نفسي هو النرفزة، العصبية، الغضب، الصراخ وحتى الصفع والضرب على الأفخاذ، هي صفات أصبحت لصيقة بنا من دون أي تقصير أو خطإ من جهتنا”، ليتحول ذلك إلى سيناريو تحمله النساء في أذهانهن عن معاملة القابلات للحوامل، ومن لم يسبق لها دخول المستشفى للوضع، فهي تحفظ هذا السيناريو الذي سمعته كثيرا من نساء أخريات. هذه هي الصورة النمطية المرسومة عن القابلات، فهن نساء متعجرفات، متسلّطات، سليطات اللسان، غاضبات بلا سبب، عنيفات بلا رحمة، يضربن الحوامل ويحرجهنن بمعايرتهن، ومنذ زمن ليس بالبعيد كانت المرأة التي سبق لها إنجاب عدد كبير من الأطفال تدخل المستشفى ودقات قلبها تتسارع لا خوفا من عملية الولادة فحسب، بل من تعنيف القابلة لها إذا علمت بعدد الأطفال الذين سبق وأن أنجبتهم. كل هذه الانطباعات جعلت القابلات الجدد يسعين إلى بذل قصارى جهدهن من أجل تغيير هذا الانطباع المجحف والظالم. كيف لأول يد تلمس البراءة أن تكون “قاسية”؟ وعن عمق الجانب الإنساني الذي يحيط بمهنة القابلة تقول السيدة نجاة.م، التي عملت عشر سنوات في المجال “أحسست بأجمل شعور في حياتي عندما لامست أول مولود وأحسست أني ساعدته على القدوم إلى الحياة وكنت السبّاقة إلى رؤيته وملامسته، لدرجة أني أحسست وكأني تذوّقت شعور الأم”.. وبعد كل هذا الحنان الذي نكتسبه من البراءة تأتي الكثيرات وتتهمنا بالإهمال والقسوة وكأن قلوبنا تخلو من الرحمة”. وفي سياق متصل تضيف القابلة صبرينة.د “أنا أبذل قصارى جهدي من أجل راحة الأم ووليدها، وأحس بالحزن الشديد لدى سماعي لكل هذه الإشاعات التي تروّج عن القابلات”. عندما يكرّس المثل القائل “القابلة ما تفرح غير بأولاد الناس” فرحة كبيرة هي التي تعتري العائلة بعد استقبال مولود جديد ورؤيته لأول مرة. هذه الفرحة التي “تسرقها” لأول مرة القابلة تحظى بها لكونها العين التي ترى المولود لأول مرة والأذن التي تسمع بكاءه وحتى اليد التي تحمله وتحضّره كالأمير الصغير لاستقبال والدته، وبعد كل ذلك قد تُحرم الكثير من القابلات من تكوين أسرة تحت ضغوطات نظرة المجتمع، ليكرّس بذلك المثل الشعبي القائل “القابلة ما تفرح غير بأولاد الناس”، حيث نه من خلال تحدثنا إلى بعض القابلات الجديدات أبدين تخوفهن من هذه النهاية، خاصة وأن الكثير من القابلات القديمات في المهنة وجدن أنفسهن بلا زوج ولا أسرة بعدما وهبن حياتهن في سبيل هذه المهنة النبيلة. الخالة “أنيسة” أم الجميع دون أن تلد لا يمكن أن نتحدث عن القابلات وننسى واحدة من أعمدة هذه المهنة، وهبت حياتها في سبيل إسعاد الناس. إنها الخالة أنيسة التي تجاوز سنها الستين عاما، والتي وهبت اثنين وثلاثين سنة من عمرها لمهنتها، متخلية بذلك عن حلم الزواج والأمومة، لتعتبر كل ولد تخرجه من بطن أمه بمثابة ابن لها. كسبت حب واحترام وود كل من عرفها أو تعرّف عليها، فهي أم الجميع، فكل شباب وبنات المنطقة يكنّون لها الكثير من الاحترام والاعتراف بالجميل، فهم بذلك يخففون عنها شعور الوحدة التي أصبحت تطبع يومياتها بعدما أحيلت على التقاعد. وعن أسباب عدم زواجها تقول “بدأت هذه المهنة في زمن كان يُنظر فيه للمرأة العاملة على أنها غير ملتزمة وغير مؤهّلة لتكوين أسرة، خاصة جزئية العمل ليلا والتي منعت الخاطبين من طرق بابي، فلا أحد في تلك الفترة كان يقبل الزواج من امرأة تعمل ليلا، وكل من تنازل لخطبتي كان يشترط عليّ التوقف عن العمل، وهو ما استبعدته تماما بعدما أحببت هذا العمل خاصة مع رؤية نظرة الامتنان في عيني كل امرأة كانت تلد على يدي”. وهكذا توالت الأعوام والسنون دون أن تحظى بشريك حياة يتفهّمها ويقدّر هذا العمل النبيل، لتبقى أنيسة تعول على الكلمات الجميلة ممن كان لها الفضل الكبير في قدومهم إلى الحياة. فيروز دباري بعدما أرعبهن شبح المعاملة السيئة للقابلات العيادات الخاصة ملاذ النساء الحوامل تتجه العديد من النساء مؤخرا للعيادات التابعة للقطاع الخاص لمتابعة حملهن والولادة هربا من المعاملة السيئة التي تلقينها من القابلات في المستشفيات العمومية. وتجنبا لسيناريو الشجار المتكرر مع كل ولادة جديدة بين عائلة المرأة الحامل والقابلات في أروقة مستشفياتنا العمومية، فيما لم تكتفي الأخريات بالمقاطعة بل وأقدمن على رفع العديد من الدعاوى القضائية ضدهن بسبب معاملتهن السيئة. تعددت شكاوى النساء الوافدات على مستشفيات التوليد، نتيجة السيناريو الذي تحمله كل امرأة في ذهنها عن معاملة القابلات لها في أصعب لحظات حياتها، هذا ما لمسناه عند أغلب النساء اللواتي تحدثن إليهن في الموضوع. (سامية.ل) من الجزائر العاصمة تقول:”أجزم لكم، وذلك من تجربتي الخاصة أن أغلبية القابلات متعجرفات، وعنيفات بلا رحمة”. أما منيرة التي تعرّضت للضرب من طرف إحداهن فتقول :”لم يتردّد زوجي في رفع قضية ضد إحدى القابلات التي أقدمت على ضربي لأنني قمت بالتقيؤ أرضا تحت تأثير آلام المخاض”. كما أعربت الكثير منهن عن أسفهن من تلك التصرفات التي اعتبرنها لا إنسانية، معتبرات أن سبب ذلك راجع إلى كون أغلب القابلات ينقلن مشاكلهن العائلية للعمل ويخلطن بين ما هو شخصي وما هو مهني”. المتابعات القضائية هي الرادع تلجأ العديد من النساء اللاتي تعرضن لمعاملة سيئة من طرف القابلات إلى رفع دعاوى قضائية ضدهن، كنتيجة حتمية لمثل هذه التجاوزات، خاصة إذا تعلق الأمر بالنساء القاطنات بالمدن الجزائرية الكبرى، التي يُعرف عن نسائها تمتعهن بمستوى أعلى من التعليم والثقافة والاطلاع على الحقوق، وهو ما يفسّر ارتفاع عدد المتابعات القضائية التي تطال القابلات في هذه المدن. وفي ذات السياق، تؤكد الناطقة الرسمية باسم فدرالية نقابة القابلات نادية كهلوز “إن أغلب القضايا المرفوعة ضد القابلات تكون من المدن الكبرى، حيث نحصي شهريا بين 3 و6 قضايا في المدن الكبرى”. وفي سياق متصل تؤكد إحدى السيدات اللواتي رفعن دعوى ضد إحدى القابلات بتهمة السب والشتم “لم أجد مخرجا آخر لأشفي غليلي من تلك القابلة التي أفسدت عليّ أهم فرحة في حياتي بصراخها وشتائمها سوى أن أرفع عليها قضية تؤدبها وتحذّر مثيلاتها من عواقب مثل هذه التصرفات اللاّإنسانية”. الاقتراض للولادة عند الخواص بحثا عن المعاملة الحسنة والتكفل الجيد، تلجأ العديد من النساء المقبلات على الولادة إلى العيادات الخاصة، مهما كلّفهن ذلك من إنفاق أموال باهظة وحتى لو اضطر بعضهن للاقتراض في سبيل ذلك، فالمهم بالنسبة لهن الحفاظ على سلامتهن المعنوية والصحية في أكثر لحظات حياتهن حرجا وصعوبة. وفي ذات السياق، تؤكد القابلة فريدة العاملة في إحدى العيادات الخاصة بالجزائر العاصمة أن أغلب النساء المتوافدات على العيادة هن إما ضحايا عنف من قبل القابلات في تجربتهن السابقة أو ممن سمعن عن تلك القصص التي تتداولها النساء عن القابلات، لذا أردن أن تسير أول تجربة لهن في الولادة بشكل جيد ودون مشاكل.