منطق السلطة في الوطن العربي واحد.. لم يتغير بتغير النظم المختلفة عبر الملكيات السلالية والجمهوريات الثورية الوراثية.. فالحاكم العربي سواء جاء إلى الحكم بشرعية نظيفة من والده الملك أو جاء بشرعية انقلابية لعسكري ضد ملك دائما يتمسك الحاكم بالكرسي حتى الموت. ناصر الذي انقلب على الملك فاروق.. قال في بداية الثورة إنه سيعود إلى الحياة السياسية العادية بمجرد أن تستتب الأمور.. وبقي 18 سنة كاملة في الحكم ولم تستتب الأمور.. ولم يغادر الحكم إلا بقرار من عزرائيل! وبومدين الذي أطاح ببن بلة لم يغادر الحكم إلا بقرار من عزرائيل.. ونفس الشيء با لنسبة لحافظ الأسد.. والأمر مشابه بالنسبة للقذافي وصدام وبن علي وعلي عبد الله صالح.. فالأمور متشابهة سواء بالنسبة لملوك وأمراء الخليج وشمال إفريقيا أو بالنسبة لجمهوريات الخلود في الكرسي أو الموت عليه أو توريثه لسلالته كما السلاطين! كل هذا يمكن أن نتفهمه.. لكن ما لا نتفهمه هو أن كل االنظم الملكية والجمهورية العربية شيدت أنظمة متشابهة في الاستبداد والبولسة والفساد.. والعمالة.. وسوء إدارة البلاد! بل وبناء مؤسسات حكم تشبه العشوائيات! ولم تصمد هذه المؤسسات بعد رحيل الحاكم أكثر من شهور أو سنوات لتنهار! كما حدث للاتحاد الإشتراكي الناصري في مصر ومجلس الثورة في الجزائر بعد رحيل ناصر وبومدين! وما حدث لحزب البعث في العراق واللجان الثورية في ليبيا. الملفت للانتباه هو أن نتائج الثورات العربية في الربيع العربي لم تتخلص من ظاهرة بناء مؤسسات الدولة بطريقة عشوائية.. أي بناء قصديري هش! فالجزائر بعد "ثورة" أكتوبر 88 بنت مؤسسات دستورية أسوأ هشاشة من مؤسسات الحزب الحاكم الهشة.. ولهذا لم تصمد أمام أول عاصفة سنة 1992 وحدث في البلاد ما حدث.. وفي تونس يريد المؤقت أن يصبح دائما.. فالمرزوقي يقول: إنه ليس مؤقتا! فالرئيس دائما مؤقتا ينتخب لمدة محدودة ويرحل.. ويرفض المرزوقي أن يوصف بالمؤقت.. ويقول إنه سيعمل على تسليم السلطة لغيره متى توفرت الظروف.. تماما مثلما كان ناصر وبومدين والأسد والقذافي وصدام يقولون ذلك! وهي ظروف بطبيعة الحال لن تأتي إلا مع مجيء عزرائيل! ترى هل من الحكمة أن تحكم تونس من طرف المؤقت عاما أو عامين! وماذا سيتغير خلال حكم المؤقت هذا في الواقع سوى أمل المؤقت في أن يتمكن من ترتيب الأمور لصالحه ولصالح حزبه ليصبح دائما؟! في مصر الآن أيضا يعيش القوم شبه ضياع سياسي بين فكرة بناء المؤقت للدائم على هواه أو بناء القائم للدائم على هواه أيضا! العسكر في مصر يقولون: إن ما جرى هو انتفاضة ضد ابن مبارك الذي شكل عصابة بوليتيكومالية هدفها نزع السلطة من العسكر في مصر.. فاستعان العسكر بالشباب والإخوان كقوة منظمة للإطاحة بعصابة جمال مبارك.. وإن هذه ثورة على ابن مبارك وليس ثورة على العسكر في مصر! لكن الثوار والإخوان يقولون: إن العسكر هم جزء من النظام الذي ثار ضده الشارع المصري.. ولذلك لابد أن يختفوا من المشهد السياسي! والمصريون يقول بعضهم إنهم لا يريدون تغيير حكم العسكر بحكم إسلامي يصادر حقهم من جديد في مراقبة الحكام ومحاسبتهم! ولم يتفق المصريون حتى الآن على الصيغة الدائمة للحكم في مصر فعمدوا إلى تبني المؤقت.. برلمان مؤقت.. ومجلس استشاري مؤقت.. ودستور مؤقت وحكومة مؤقتة.. أي أن مصر التي أطاحت ثورتها بالبناء الهش الذي ورثته عن نظام مبارك الموروث عن نظام ناصر.. هي الآن بصدد بناء عشوائيات جديدة للحكم.. قد تكون أسوأ من عشوائيات ناصر ومبارك! ويتساءل الناس في الوطن العربي: لماذا الثورات في شرق أوروبا تحولت بسرعة إلى مؤسسات دستورية دائمة أرسيت في زمن قياسي.. فيما بقيت الأمور في الثورات العربية تراوح مكانها ويسطير عليها المؤقت الذي لا يخفي تطلعه إلى تحويل نفسه إلى دائم.. كما هو الحال في تونس ومصر.. وكما سبق أن حدث ذلك في الجزائر قبل 20 سنة من الآن؟! المؤقت.. بطبيعة الحال لا يبني استقرارا فضلا عن أن الطمع لا يبني بلدانا! الدائم الوحيد في البلدان العربية الذي لا يتغير هو الفساد والاستبداد! كنا نطمح قبل 20 سنة أن تكون تجربة الجزائر في الديمقراطية قدوة للعرب الجمهوريين الديكتاتوريين الوراثيين.. لكن الذي حدث هو أن الفكرة المؤقتة التي سيطرت على مجريات الأمور في بداية التسعينيات أدت إلى كارثة وطنية جعلت البلد يتأخر عن آماله وطموحاته عقودا كاملة! ومنذ أيام كنا في شمال إفريقيا نأمل في أن تقدم ملكية المغرب الشقيق نموذجا رائدا للملكيات السلالية في الخليج.. لكن الذي حصل في الانتخابات الأخيرة وما نتج عنها جعلنا نيأس من أن يقدم المغرب الشقيق ما كان مأمولا منه في مجال الديمقراطية والإصلاحات! وعندما نرى زعيم الحزب الإسلامي الفائز ينحني للملك محمد السادس حتى تكاد جبهته تلامس حذاءه من شدة الانحناء! وهو يقدم حكومته لجلالة الملك.. عندما نرى ذلك نيأس من الموضوع كما يئسنا من الأمر في تونس المرزوقي ومصر العسكر والأخوان.. وليبيا المليشيات. وعندما نسمع رئيس وزراء المغرب الجديد يقول إنه سيغادر الحكم إذا خرج الشعب المغربي في مظاهرات ضده.. ونرى في نفس الوقت جزءا من المغاربة في الشارع يعبرون عن عدم رضاهم عن الطريقة التي لعبت بها حكاية الإصلاحات.. عندما نرى ذلك نحس بأن حكومة الإسلاميين في المغرب لا تختلف في كذبها على الناس عن حكومة من سبقهم في الحكم.. فلو كان رئيس حكومة المغرب صادقا فيما يقول.. لغادر الحكم قبل أن ينصب! ومن هنا فإن الربيع العربي بقدر ما فتح آمالا كبيرة أمام الشعوب بقدر ما زودنا بخيبات أمل قاتلة! ويظهر أن العرب وجدوا لأن يستعمروا أو يحكموا من طرف الاستبداد والفساد.. ولا شيء غير ذلك! فقدرنا في الوطن العربي هو الاستبداد الدائم أو الفوضى المؤقتة بمواصفات دائمة!