يتَسارَع الزمان، حتى لكأنَّما يُريد أنْ يَنْفضَّ، أو يَنْفُضَ يديْه من غُبار الأيّام، فيُخيَّل للحيّ أنّ القُرون أصْبحت عُشْريّات، والعُشْريّات سنَة، والسّنة، بِضْع أيّام لا غير. وفي تسارُع الزمن هذا، لم يَعُد معْيار الجِيل يحْمل نفْس الدلالة الزمنيّة السابقة، بل أصْبحت الأجْيال لا تفْصلها عن بعْضها بعْضا، إلاّ بضْع سنِين، حتى لا تَجِدُ أخًا ينْتمِي لجيل أخيه، بِفِعْل الفُرُوق السِيكولوجيّة المُكْتسبة لدى كلٍّ منْهما، والتي تُميِّز أحدهما عن الآخِر. والباحِث عن أسْباب هذا التَّسارُع لن يعْدِم أكْثر من عِلَّة، فقد نُقِصَت الأرْض من أطْرافها، إذْ طُوِيَتْ المسافات طيًّا، وتَسارعتْ التِّكنولوجيا حتى أرْهقَت اللاَّهثين وراء خُطاها. منذ عشرات السنين، كان هناك جيل سابق، ولِنُسَمِه جيل الأثِير، ثمّ بعد لأْيٍّ، تلاَه جيل التِّلْفاز، ثم ردْها آخر وَحَلَّ جيل الحاسوب، وتسارَع الزمن من حِينها حتى لم يَعُد بإمْكان الجيل السّابق أنْ يستوْعب مبْتكر، إلّا ويتَخطَّف الجيل لاحِقُه مبْتْكرا أحْدث. وإذْ ذاك، حين نقْرأ قوْل الرسول صلى الله عليه وسلم “خيْر القرون قرْنِي، ثمّ الذي يَلِيه، ثمّ الذي يَلِيه”، نُدْرِك أنّ مُصْطلح الجيل، يجب أنْ يُفْهم بنِسْبيَّة الزمن، فإذا كان مفْهوم الجيل سابقا، قوم يلُمُّهم قرْن ينْقُص أو يزيد، فإنّ الجيل في العصر المُتسارع هذا، لا يكاد يلُمُّه عشْر سنين. في ثمانينيات هذا الزمن، هل جيل يحْمل من الأفكار ما لم يكن أنذاك له مُسْتسْقى إلاّ الإسلام، وتلقَّف الشارع المُتعطِش آنذاك هذا الجيل بكثير من الإنْبهار، إنْبِهار الوالد الذي يَرى بِخِيلاء ابْنه وقد إسْتوى أوْكاد،على صراط مستقيم، قد لا يكون هو نفسه، لِظروفٍ إسْتوى عليه. وسَرى أيّامها في أوْصال المجْتمع شيْء من عَبَق الماضي، وتعلَّقت الأعْيُن والآذان بِبِضْع كلمات كانت تخْرج حينها من أفواه أولئك الشباب على بساطتها كأنّها نور، ودَبّ في رُوح المجتمع وُجْد وأيُّ وُجْد. أذْكر يومها أنّنا كنا نفْترش الأرْض فيُقال لنا “بُنِيَ الإسلام على خمْس..”، فنفْغُر فاهَنا شدَها بِرَوْعِ المقال، نتلقَّفه كأنّما هديّة من السماء، وكان لِحسْن النيّة في أولئك الفِتْيَّة الأثَر في رجوع كثير من الخلْق إلى الجادّة، وظُنَّ حينها أنّ الأمة مُقْدِمَة على خيْر، بل على ألْف خيْر. ولما كانت السِّلْعة غاليّة والمُبْتغى رفيعا، فقد تمنّعت الغاية وأقْسمت أنْ لنْ تُؤْخَذ إلاّ بِحقّ، سُنّة تلك كانت وستَظلّ، من سُنَن الكوْن، فكانت المُنْعرجات التي سايَرَت أولئك الفِتْيَة إلى محطّة الكُهول . واليوم بيْن ماضي الفَتى وحاضر كُهولَته، أيٍّ من أولئك وأولاء، يجِد شبَهًا بيْن الفتى ذاك والكهْل ذا، بل هل يستطيع الكهْل هذا، اليوم، أنْ ينْظر خلْفَه بلا إسْتحْياء ، فيَسْطع أنْ يُميِّز أيُّ الفتْيَان كان وأيُّ الكهول أضْحى. هذا الحديث لا يتعلَّق البتّة بِفرْد بِعيْنه، ولا بِمِثال منْفرد في جماعة متَميِّزة، بل يتعلّق بظاهرة تكاد تكون ساحقة في بلدنا هذا على الأخصّ، وفي بلدان أخرى على العموم. ليْس بمقْدور أيٍّ كان أنْ يُجادل في ظاهرة لا يُنكرها إلاّ جاهل أو مُتجنٍّ، ومظْهر ذلك أنْ شَتّان بيْن ماضٍ إشْرَأبَّت فيه أعْناق الرجال فيه لما يتَفوّه به أولائك الفِتْيَّة، وبين حاضر إذا تكلّم فيه كهل اليوم “فَتى الأمْس”، إستعاذ منه الجمْع وإنْفضُّوا مُوَلِّين. وإذْ ذاك، ألاَ يكون من المُسْتساغ التَّساؤل عن مواطن الخطأ في تلك المسيرات، وما الذي إجتاح تلك الأفْئدة حتى تلوَّثت، فلم يعد يُميَّز الدَّاعي عن المدْعو سِوى شدْق اللِّسان. لن يحتاج الأمر إلى كبير ذكاء، بل يكفي مُقارنة فتى الأمْس بِكهْل اليوم، ليُعْرف موْطن أو مواطن الخطأ، وأُولى مظاهر الفرْق بين الفتى والكهل، أو بين الرَّجل في الحاليْن، مسألة التَّجرُّد . كان الفتى أيّامها، يهْفو إلى نشْر فكرته، لا يهمُّه على أيِّ المنابر وقَف ، ولا ما يعود عليه من مُتلقِّيها، بل لم يَكُن يهمُّه أصْلا أنْ سيكون لها الأثر، أمّا الفتى الكهل فلا يرْضى بِغيْر الكرْسيِّ الدَّوَّار منْبرا، وفي جلّ إنْ لم يكن كلّ حركاته، حساب فَيْء، وحساب مركز أوغنيمة . كان ذَوَبان الفتى في الجماعة كَذوَبان الجماعة في الفتى، شيئان لا يكاد يفْهمهما إلاّ بَصير، ذلك أنّه لم يَكُ يهُمّ الفتى منْ يرْأس الجماعة، ولا الجماعة أيّ فرْد يرْأسها. كانت الفكرة واضحة، دعْوة تهْفو إلى نفْع الغيْر لا غيْر، أخَذ بها من أخَذ ونبَذها من نبَذ، عنْها الفتى لا يَحِيد. أمّا الكهل، فالأمر سياسة، والسياسة تدْعو إلى التَّرْك والأخْذ، ترْكا يأخْذ كهَدف إكثار الأتْباع، وإنْ ظلّ كلّ منْهم على ما كان عليه إلى أنْ يَلْقى الله. كان مِن الصّعْب على أيٍّ كان أنْ يَدَّعي الدعوة ،لأنّ الدّعْوة أو نَمَطِيّة الداعيّة كانت تقتضي أخْذا وترْك، تَسنِّي بأخلاق ومن أخْرى بَراء، وحين أصْبحت النمطية شُعورا في الفتى وسَوالِفا. ولِحْيَّة وقصْر قميص، وتشدُّق لِسان لا غيْر، سَهُل الأمر على كلّ دخِيل ومُدّعِي، وكان ما كان. خلاصة القول أنَّ ما حدَث، إنّما حدَث لِتعجُّل في قطْف الثِّمار طبَع صِفة الكهْل، تعجُّلا أخْرَجه باكرا من حقْل الدعوة البحْتة التي تهْدف إلى زرْع الخير وإكثار سواد الخيِّرين، إلى إكثار الأتْباع الشخْصيِّين، حتى أضْحى الأمْر ولا فرْق بيْن ما يُسمَّى إسْلاميّ وما لا يُسمّى، حتى لكأنّ عُمر الفاروق يقف بيْن ظهْرانيْنا يقول “كلُّكُم يمْشي رُوَيْدا، كلّكُم يَطْلب صيْدا، إلاَّ سعْدا بن عُبيْدا”، ونتَجرّأ فنَقول، سيُتْعِبُك البحْث بيْن ظهْرانيْنا يا عمر عن سعْد بن عُبيْد، لقَد أوْشك أنْ يُولَد منْذ رِدْه في فتْيانِنا، فأكلتْه الكُهول. [email protected]