يعود، اليوم، عبر مختلف ربوع الوطن الحديث عن رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر وأحد العلماء المسلمين الكبار، يوم العلم، الذي يخرج فيه هذا العملاق مرة كل سنة ليختفي العام كله. وفي الذكرى فضلنا عدم الحديث عن ما ينظم من ملتقيات وندوات وغيرها من أساليب الماكياج المعهودة، والتطرق إلى كنوز رجل عظيم باتت مهددة بالضياع. بحي ربعين شريف العتيق في قلب المدينة القديمة بين السويقة ورحبة الصوف، في قسنطينة، كانت لنا وقفات مع مسنين يسكنون هناك، أكدوا أن الشيخ بن باديس كان يعشق المكان ومن المستحيل أن لا يعبره في اليوم مرتين على الأقل.. هناك توجد المطبعة الإسلامية الجزائرية المغلقة منذ سنوات عديدة، وهناك توجد الكثير من المعالم التي ارتبطت بسيرة حياة الشيخ المصلح، أول مدرسة أنشأها هي “مدرسة التربية والتعليم”، التي طالها التشويه التاريخي، حيث فضل مسؤولون سابقون تحويل اسمها إلى مدرسة السيدة رقية بنت العربي التبسي، على اسم المديرة التي تولت تسييرها لعدة سنوات، قبل أن تعاد اللافتة بعد تحرك عائلة الشيخ، والمطبعة التي أصدرت جرائده ومؤلفاته كالشهاب، وهي تحوي اليوم مكتبه وكرسيه ومذياعه القديم وبرنوسه وآخر مخطوطاته. حاولنا مرارا ولوجها غير أن السكان أطلعونا أنها تظل مغلقة وقد سكنتها الجرذان وعشش فيها العنكبوت..! فلا أحد من المسؤولين تجرأ لنفض الغبار عنها. واليوم كنوز الشيخ معرضة للضياع.. هناك وجدنا أبوابا بطلاء أخضر موصدة بسلاسل حديدة وكأنها سجن، وليس مكانا للعلم والتنوير. وبمحاذاة المطبعة ودائما في “ربعين شريف” يوجد مسجد الشيخ الذي يحمل اليوم مسجد ربعين شريف، ربما المعلم الوحيد الذي حافظ على رونقه وطالته أشغال ترميم عديدة، وهو مفتوح أمام المصلين. الزائر لحي ربعين شريف العتيق الذي صار يحمل حي الشيخ بن باديس يقف على حجم الكارثة، هناك معالم عرضة للضياع جهارا ونهارا، رسومات وكلمات تخدش الحياء وتخريب في أماكن كان الشيخ يحرص أن تكون أماكن للعلم والمعرفة والإشعاع، كالمطبعة التي تحولت اليوم إلى ما يشبه مفرغة عمومية. والغريب أن السلطات المحلية أزاحت من برامجها فتح المطبعة أمام الزوار في يوم العلم، حيث بقيت مغلقة لسنوات. وحتى الاقتراح الذي تقدم به القائمون على شؤون مؤسسة الشيخ بن باديس بنقل ما تبقى من لوازمه ومآثره إلى متحف سيرتا الكبير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لم يلق صداه، حسبما أكده رئيس المؤسسة الأستاذ فيلالي.. ففي ربعين شريف اختفت مكتبات عديدة وحول نشاطها إلى بيع أدوات الخياطة والطرز بشكل ملفت ومخز في نفس الوقت. وبمعهد الشيخ بن باديس المتواجد في بطحة السويقة الأمر سيان، فهناك أيضا ضاع الرصيد التاريخي واختفت الفسيفساء بعد أن أقام فيه منكوبون لسنوات، قبل أن تقرر البلدية إعادة ترميمه وتداول على إعادة الاعتبار عديد المقاولين غير المختصين، فصارالمعهد الذي كان تحفة قائمة بذاتها إلى بناية عادية دشنها الرئيس يوم 16 أفريل من سنة 2006، واليوم يبدو مجرد بناية كغيرها من البنايات ليختفي تصميم المعهد ورونقه. في السويقة أيضا ضاع كذلك البيت الصغير الذي ولد فيه العلامة الشيخ الواقع بزنقة عبد الله بالسيدة.. مؤسسة العلامة.. سجل تجاري بعلامات الصراع كان لتأسيس مؤسسة الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 2000، بمباركة رئيس الجمهورية، بادرة أمل في الحفاظ على ما تركه الشيخ المصلح من مخطوطات ومؤلفات ومعالم في مختلف جهات المدينة القديمة بين السويقة ورحبة الصوف، حسب الهدف الرئيسي من إنشائها، غير أن الصراع على الزعامة أفسد كل شيء وحولها إلى سجل تجاري، ويكفي أنه تداول عليها منذ سنة 2000 أربعة مسيرين وسط صراعات كادت تأخذ أبعادا خطيرة كتلك التي حدثت منذ سنتين بين عميد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، الدكتور بوخلخال، رئيسها السابق والرئيس الحالي، النائب السابق الدكتور فيلالي، وهو ما جعل هذه المؤسسة تفقد مكانتها فاسحة المجال لمبادرات المجلس الشعبي الولائي الذي ينظم سنويا جائزة العلامة ابن باديس في مختلف الفنون والآداب، والتي تمنح مبالغ مالية هامة للثلاثة الأوائل. تسامح حتى مع المخمورين ونساء سرن خلف جنازته غير بعيد عن قصر أحمد باي بالقصبة، يوجد مسكن عائلة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعلى خلاف أبواب الجيران الحديدية مازال باب العائلة خشبيا تغطيه طبقة رقيقة من الحديد ومزخرف بالنحاس الأصفر يعود إلى عهد الأتراك، وهو البيت الذي أقام فيه الشيخ. حاولنا ولوجه غير أن الجيران أطلعونا أنه من الصعب بلوغ ذلك لأن المنزل يشبه البيت الكبير، ليس من السهل سماع طرق الباب. كما أن أحفاد الشيخ يحضرون لزيارات مسؤولين، فكان علينا أن نجالس عمي احمد أحد جيرانه المسنين الذي حدثنا بشيء من الحسرة عن أيام زمان أيام الشيخ، أين كان الحياء وتبجيل الكبير واحترام الصغير، فراح يقص علينا يوميات عاشها وهو صغير.. حيث قال: الشيخ كان متسامحا كبيرا، ويكفي ما يروى عنه أنه سمع بتجمع شبان لتناول الخمر تحت القنطرة، ويقصد جسر سيدي رائشد الكبير، المكان الذي لا يزال يجمع عشاق الخمر والقمار إلى اليوم، هناك كان الشيخ يزور الجماعة يوميا في مسعى لجرهم إلى ترك هذه العادة القبيحة التي ينهى عنها الإسلام، فكان كل يوم يطل عليهم ليحييهم بتحية الإسلام: “السلام عليكم” ثم يعود إلى مسجده، وهو سلوك اعتاد عليه الشبان كل مساء، فكانوا كلما رأوا الشيخ قادما يخفون قارورات الخمر، وهم يردون عليه السلام، قبل أن يخاطبهم.. أنا أزوركم كل يوم ولكنني أود أن تزورونني يوما واحدا فقط ، فقالوا أين نجدك؟ فرد عليهم: في المسجد، فضربوا له موعدا يوم الأحد مساء وكان في انتظارهم، فراحوا يستحمون ودخلوا بيت الله ولم يخرجوا منه إلا وهم يقسمون على ترك الخمر!. فالرجل كان يحاور الجميع ويتسامح مع الجميع دون استثناء، وهي صفات قلما نجدها اليوم، كما حدثنا أن نساء سرن خلف جنازته لأول مرة في تاريخ المدينة التي أنجبت عظماء كبار على مدى الحقب التاريخية. عائلة بن باديس تفرج عن جزء هام من مكتبته لأول مرة كشف الدكتور عبد العزيز فيلالي، رئيس مؤسسة بن باديس بقسنطينة، أن الملتقى المزمع عقده اليوم بمناسبة إحياء ذكرى العلامة عبد الحميد بن باديس، قد أجل إلى تاريخ 19 ماي المخلدة ليوم الطالب. فيما سيتم عرض بقصر الثقافة مالك حداد بقسنطينة جزء هام من مكتب الشيخ لأول مرة . نفس المتحدث قال إن المؤسسة تهدف إلى إحياء تراث بن باديس ونشره أفكاره كونه شخصية عبقرية متعددة الجوانب والمواهب من جهة، وإمام وحافظ للقرآن ومفسر للسنة النبوية من جهة أخرى، إلى جانب تصنيفه كشاعر وصحفي ومقاوم كبير صد ما جاء به الاستعمار لتدمير الذات الجزائرية. الدكتور فيلالي قال إن الجيل الجديد يجهل الكثير عن مراحل حياة العلامة، زاد من عمقها تغييبه في البرامج الدراسية وأحيانا وسائل الإعلام، كما أن القليل من المتخرجين والباحثين من يبحثون عنه في رسائلهم الجامعية، وهو الأمر نفسه للمؤرخين. ذات المتحدث أضاف أن 10 سنوات من العمل ضمن المؤسسة أفاض أخيرا بسلسلة من الإصدارات الجديدة التي تتناول سيرة العلامة وجوانب يجهلها الكثير من الدارسين والأمة، بعد تسلمهم وثائق جد هامة كانت مخفية لدى عائلة بن باديس تم استثمارها ضمن هده الكتب، مشيرا إلى أن الولاية والجزائر عامة قد ابتعدت عن تناول كتب تحكي السيرة الذاتية للعلامة، الإصدارات التي طبعت خلال اليومين الأخيرين والذي بلغ عددها 5 إصدارات، فقد وقع أولاها الدكتور عبد العزيز فيلالي بكتاب يحمل عنوان “جوانب خفية في حياة بن باديس الدراسية”، وهو عبارة عن مجموعة من الوثائق تحكي المسار العلمي له انطلاقا من الزيتونة والمدينةالمنورة ورجوعا إلى الجزائر، حيث صححت هذه الوثائق بعض المغالطات التاريخية المتداولة في الكتب وبعض الأمور محل الجدل. ثاني كتاب جاء لتكريم عائلة بن باديس انطلاقا من القرن 13، أين كانت تمثل قضاة وسياسيين وعلماء دين، على غرار جده المكي الذي طبق الشريعة الإسلامية في القضاء إلى أن انتهى المطاف بالعلامة، حيث حمل الإصدار عنوان “البيت الباديسي مسيرة علم و دين وسياسة”. الإصدار الثالث والرابع تمحورا حول دور الشيخ بن باديس في تجديد العقيدة الإسلامية وتموقعه بين السلفية والتجديد، وقعهما الأستاذ محمد الدراجي.