كثرت مطالب الطبقة السياسية في الجزائر، وكثر معها تمييع العمل السياسي، مما يدل على نقص في الوعي السياسي وفي الممارسة الحقيقية للديموقراطية، ذلك الوعي الذي يبنى انطلاقا من تربية وتكوين المناضلين ضمن أطرهم الحزبية ومناهجهم السياسية، وانطلاقا أيضا من تعددية فاعلة وإيجابية يمكنها أن تفضي إلى تداول مسؤول على السلطة تكون من أولوياته الأساسية الدفاع عن المصلحة العليا للوطن دون الانحدار في معترك الشوفينية، والاستجابة لمطالب المجتمع دون السقوط في الشعبوية. الأيام الماضية أثبتت لنا افتقار الجميع (الطبقة السياسية حاكمة أو محكومة) لهذا الأداء السياسي الراقي مما يطرح علينا كثيرا من التساؤلات الملحة عن مسببات هذا الضعف وهذا الانحدار.. هل النظام السياسي الحاكم في البلاد هو المسؤول أم الطبقة السياسية (الحزبية) هي المسؤولة أم المجتمع الجزائري وخاصة طبقته المثقفة هو المسؤول..؟ عندما أتمعن في المسيرين للسياسة كطبقة حاكمة في البلاد منذ الاستقلال، لا يمكنني إلا أن أعترف بفشلها في خلق المناخ الإيجابي الدافع لنشوء حركة سياسية واعدة، خاصة عندما نسترجع أساليب الحكم السابقة وحتى الآنية التي مرت على تأسيس وتسيير العملية السياسية في الوطن، بالإضافة إلى مفرزات الشرعية الثورية وسياسة التموقع ضمن أنهج متعددة لنظم الحكم العالمية التي جربت في الجزائر ولم تعمل لا على ضمان الاستقرار السياسي ولا على تحفيز واستقرار النظام الاقتصادي، الأمرين اللذين سببا تدحرجا خطيرا أحالنا إلى الإشكالات الآنية، بما فيها من تقلص المردود السياسي وتدهور المعطى الاقتصادي، ونشوء إفرازت جديدة أسوأها عدم الثقة الشعبية في السياسي مهما كان ناجحا، وتجاهل للعملية السياسية مهما كانت مهمة. لكني مع ذلك أنا جد متفائلة عندما أسمع بأن المجتمع المدني قد اقترح نفسه مشاركا في العملية السياسية بتشكيله ما سمي ب "مرصد المجتمع المدني لملاحظة الانتخاب"، حتى وإن كانت انطلاقته غير قانونية (لم ينص عليها قانون الانتخابات)، وتجربة صغيرة غير متمكنة ميدانيا نظرا لكونها تحدث لأول مرة في الجزائر.. لكنها مع ذلك تبقى تجربة فذة تلهم بوعي جديد لدى المجتمع المدني على السلطات السياسية أن تعيره اهتماما أكبر في المستقبل، كونه سيضع حجرا جديدا وقويا في بناء الديموقراطية الحديثة.. كما أنه لا يمكنني إلا أن أكون متفائلة بنشاط واقتراحات اللجنة المستقلة لمراقبة الانتخابات التي مازالت هي الأخرى تعاني من صعوبات تقنية وقانونية وأيضا سياسية، بالنظر لما يستلزمه القانون وكذا الوعاء الانتخابي الجزائري من أطروحات وإشكالات.. ويكفيها أنها ستقدم تقريرا مشخصا للظروف المحيطة بالعملية الانتخابية التي مهما كان موقفنا منها فإنها ستكون فخرا وطنيا بما قدمته من طروحات جديدة فاعلة ستعكس دون شك جهدا سياسيا ناشئا علينا الإشادة به والعمل على ترقيته. وتبقى الأحزاب السياسية التي تعتبر في البلدان الديموقراطية، الرافد الأساسي لحاملي أفكار التغيير والتجديد في المجتمع بما تفرزه من شخصيات نضالية، وهامات قيمية، تعمل باستمرار على التواصل مع شرائح المجتمع المختلفة تعكس طموحاته ومطالبه سواء عبر البرامج الحزبية أو عبر الاستحقاقات الانتخابية، ومنها المواقف السياسية والاختيارات العملية أمام ما يعتري المجتمع من تحديات صعبة ومسيرات محبطة، والتي، مع الأسف، فشلت مثلما فشل المسؤولون عن السياسة في ضمان استقرار الوطن سياسيا كان أو اقتصاديا، فشلت في خطاباتها وفي تأطير مناضليها وفي تأطير المجتمع ككل.. وأنا إذ أتفق مع وزير الداخلية في وصفه دعوة الأحزاب التي تموقعت في المعارضة بعد كشف نتائج التشريعيات، إلى إنشاء برلمان شعبي ب''المساس الخطير بدولة القانون''، فإني أيضا أحمله مسؤولية تسيير الإصلاحات منذ بدايتها، بما فيها تلك الفراغات القانونية التي طالت قانون الانتخاب.. فتكتل خمسة عشر حزبا سياسيا، ضمن ما سمي ب''الجبهة السياسية لحماية الديمقراطية، ليست ناتجة بالنسبة لي فقط عن ''التسرع وتأثير الغضب''، وإنما ناتجة عن قلة الوعي السياسي بمفهوم الديموقراطية، لأن الإعلان عن مقاطعة جلسات البرلمان دون الانسحاب منه نهائيا هو هفوة سياسية خطيرة سبق وأن مارستها أحزاب أخرى ولم تتخذ ضدها الإجراءات اللازمة، ولم يتفاد تكرارها في القانون الجديد حتى وإن اعتبرها بعضهم تعبيرا ديموقراطيا.. لأن المقاطعة وعدم الاعتراف ببرلمان انتخبنا من أجله تجبر على الاستقالة فورا، وأما اللجوء إلى ''إنشاء برلمان شعبي" فهو أمر ينم عن افتعال لأمر ليس موجودا، انطلاقا من كون غالبية المعارضين، أحزابا لم تستوف شروط وجودها الحزبي، خاصة وأن عمرها لم يستوف بعد قانون الجمعية العامة السنوية، التي تفرض تنصيب قواعد محلية، وبرامج تكوينية وانتخابية داخل الحزب نفسه، هذا الفراغ الذي انعكس في خطب الحملات الانتخابية التي وصفت بالرداءة الكبرى، وما كان الحضور في القاعات دليلا عن التصويت مهما كانت نوعية الأحزاب، وإنما هو حب اطلاع وتعرف قد يؤدي في النهاية وبعد سماع ما سمعنا إلى مقاطعة تلك الأحزاب وخطاباتها. لكن ما يسيء للحركة السياسية الحزبية في نظري، هو تلك الصراعات الداخلية وذلك التشرذم وتطاول المناضلين على بعضهم البعض بأساليب جد منحطة يتقزز منها المناضل فكيف بالسامع اللا منتمي، تطاحن يقرف منه الناس وبما ستأتي به إطاراتهم من نتاج سياسي أو سياسيين، وبطبيعة الحال سيدفع بالمواطن المتعطش لديموقراطية الغرب إلى العزوف عن العمل السياسي مثلما يدفع المتسلط إلى التفرد بالسلطة وتضيع في النهاية مطالب وانشغالات المواطن.