سجلنا هذا الحديث الهام مع المناضل الكبير أحمد (علي) مهساس قبل سنوات، بشقته المتواضعة في شارع مراد ديدوش، وقد ارتأينا نشره بمناسبة الذكرى الخمسين لاستعادة سيادة الجزائر واستقلالها. في الحلقة الأولى يعود بنا مهساس إلى مرحلة الإنتقال الفاصلة من "الثورة السلمية" إلى الثورة المسلحة، عقب مجازر 8 مايو 1945 عندما أصبح التسلح "مطلبا نضاليا"، حسب قوله. ويعرج بنا في نفس الحلقة على أسره ورفاقه في قيادة "المنظمة الخاصة" سنة 1950، وكيف أدى الشعور بالمسؤولية تجاه الإختيار الثوري إلى فراره من سجن البليدة، رفقة قائد المنظمة أحمد بن بلة في مارس 1952، وتأثير معاناة الفرار والتستر في توسيع شقة الخلاف وسط الحزب الوطني الثوري ذاته بين "الثوار" والإصلاحيين. كما يقف بنا عند لحظة حاسمة في ترجمة الإختيار إلى فعل: لقاء "مونروج" الثلاثي الذي كان من نتائجه تعيين بوضياف منسقا للثوار داخل الجزائر ضمن آفاق إعلان الثورة،5 حسب الإمكانيات المتاحة في أقرب الآجال. "طليعة مسلحة".. لإشعال فتيل الثورة دخلنا السرية في غضون الحرب العالمية الثانية اضطرارا، لأن إدارة الإحتلال قررت حظر حزب الشعب الجزائري مع بداية الحرب، فلم يعد هناك مجال للنضال السياسي الوطني علانية. كان التصور السائد في صفوفنا آنذاك أن الثورة السلمية ماتزال ممكنة، عن طريق حزب قوي قادر على تعبئة الشعب، مصمم على النضال في سبيل الإستقلال، لكن بعد تجربة "أحباب البيان والحرية" (44 1945) ومجازر 8 مايو 1945 تبلورت رؤية جديدة: أن العمل السياسي الثوري لم يعد كافيا وحده، فلابد من طليعة مسلحة لإعطاء هذا العمل الفعالية المنشودة، طليعة جاهزة من الناحية العسكرية لقيادة المناضلين في حالة اللجوء إلى المواجهة العنيفة مع نظام الإحتلال. هذا التصور شق طريقه بعزيمة أقوى بعد فشل محاولة "الإنتفاضة الشاملة" كرد على مجازر 8 مايو. والواقع أن الإحتكام إلى السلام في مواجهة الإستعمار الإستيطاني الفرنسي، رافق المناضلين الشبان من جيلي منذ انخراطنا في حزب الشعب الجزائري السري، وتجلى ذلك في نوع من الميل العفوي إلى البحث عن الأسلحة، هذا الميل بعد أن كان في البداية يكتسي نوعا من الرومانسية، أصبح مطلبا نضاليا غداة 8 مايو 1945. هذا المطلب تجسد في مؤتمر منتصف فبراير 1947 لحزب الشعب الجزائري، في قرار تأسيس "طليعة مسلحة" باسم "المنظمة الخاصة"، كتنظيم سري شبه عسكري، وكان القرار تعبيرا عن إجماع واسع في المؤتمر حول إعطاء الألولوية الكافية لتحضير الثورة المسلحة، طبعا قرر المؤتمر كذلك مواصلة المشاركة في الإنتخابات باسم الواجهة الشرعية المتمثلة في حركة انتصار الحريات الديمقراطية لكن على سبيل التجرية فقط، وكمنبر للدعاية لا غير. وتؤكد نتائج مؤتمر فبراير 47 أن حزب الشعب تجاوز إيجابيا محنة مايو 45، وما تلاها من محاولات التهميش، بعد أن تحالفت عليه إدارة الإحتلال والحزب الشيوعي الجزائري، فضلا عن حلفائه السابقين في أحباب البيان والحرية، من أنصار فرحات عباس وجمعية العلماء، فقد كان الجميع يحمّلونه مسؤولية ما حدث. في سنة 1948 أصبحت "المنظمة الخاصة" جاهزة تنتظر أمر قيادة الحزب بالإنتقال إلى المرحلة الفاصلة في مسار الكفاح الوطني، وعقدت اللجنة المركزية في نهاية السنة دورة موسعة بزدّين (عين الدفلى)، قررت خلالها إعطاء دفعة جديدة للمنظمة. كان تعداد "الطليعة المسلحة" في أوجها يتجاوز 1500 مناضل، وقد جهزت نفسها بنواة مصالح خاصة، على غرار مصلحة الإستعلام التي كان على رأسها أمحمد يوسفي، ومصلحة الهندسة العسكرية بقيادة محمد أعراب، لكن ماذا عن قرار إعلان الثورة؟ واجهت قيادة الحزب صعوبة في اتخاذ القرار، مقدرة أن الظروف الداخلية والخارجية في أواخر الأربعينيات لم تكن مواتية، هذا الموقف -المتردد من القيادة، أدخل "المنظمة" في حالة انتظار محرجة، لما في احتمال اكتشافها من خطر على الحزب نفسه، هذا الإحتمال ما لبث للأسف أن أصبح واقعا، باكتشاف هذا التنظيم فعلا في مارس 1950، وكانت قادة "المخ" حريصة عى تفادي ذلك، كما تؤكد تنبيهاتها المتكررة الموجهة لمسؤولي الحزب. كنت في ربيع 1949 قد تركت أركان "المخ" حيث كنت مسؤولا على ولاية جنوب العاصمة (1) بعد تعييني في المفتشية العامة لحزب، لكن بعد أداء مهمتي فقط في إطار المهمة الجديدة ألقي عليّ القبض بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية، فحبست ستة أشهر، قبل أن أشرع في أداء الخدمة فعلا بناحية الشلف. وعقب الإعلان عن اكتشاف "المخ" كما سبقت الإشارة، ذهبت إلى مقر الحزب بساحة شارتر في العاصمة مستفسرا عن الموقف الذي ينبغي اتخاذه، لم أجد لدى الإدارة تعليمات محددة، فعدت أدراجي إلى الثكنة لكن بمجرد وصولي اعتقلت من جديد في قضية "المنظمة الخاصة" هذه المرة، وكان اعتقالي ضمن الرحيل الأخير من المقبوض عليهم. كيف هربنا من سجن البليدة؟ تعود علاقتي بأحمد بن بلة إلى أواخر 1947، وقد نشأت بطريقة عفوية لوجود تقارب فكري وإيديولوجي بيننا، فقد كنا في صف واحد من ناحية الخط الثوري وما يتطلبه، فضلا عن رفض فطري للنزعة الجهوية، هذا التقارب لم يكن يمنع اختلافنا بين الفينة والأخرى، حول المسائل النظامية خاصة، فقد كنت أفضل العلاقات السلمية، بينما كان بن بلة يميل إلى أسلوب العلاقات الإنسانية، ويعكس هذا الإختلاف نظرة كل منا لفعالية التنطيم: فأنا ابن نظام حزب الشعب، نشأت في ظل احترام العلاقات الهرمية، في حين يرى هو أن العلاقات الشخصية يمكن أن تحقق نفس الفعالية أو أكثر. وعندما التقينا بسجن البليدة من مايو 50 إلى مارس 52 توطدت علاقتنا أكثر فأكثر، وكان من الطبيعي أن نفكر في الفرار معا، ولم نخبر بمشروعنا هذا غير امحمد يوسفي من أركان "المخ" لكنه رفض، ولهذا الحذر والحصر ما يبرره: تزايد فرص النجاح في مثل هذه العمليات كلما كان العدو قليلا. كان قرار الفرار تعبيرا عن الشعور بالمسؤولية الثورية الملقاة على عاتقنا، هذه المسؤولية التي لم يكن القيام بها ممكنا من وراء القضبان، وكان قد ترسخت لدينا في تلك الفترة قناعة أن النزعة الإصلاحية بدأت تتغلب وسط قيادة الحزب، وأننا نحن مناضلي "المنظمة الخاصة رحنا ضحية التراجع عن الخط الثوري. وكنا طلبنا من القيادة مساعدتنا في العملية، فكان لها رأي آخر. أمام هذه الوضعية الصعبة كنا نتساءل: هل نترك الحزب لنؤسس حركة جديدة؟ أم الأفضل أن نواصل التكتل داخله كجناح ثوري؟ فضلنا في النهاية الإختيار الثاني الذي يقتضي أن نتصدى للنزعة الإصلاحية من داخل الحزب. قررنا الفرار إذا، ونفذنا العملية بنجاح يوم الأحد 16 مارس 1952، بمساعدة فردية من بعض المناضلين ناحية البليدة، نذكر منهم صافي بوديسة والشهيدين مصطفى سيدي يخلف والطيب البرزالي.. اختفينا في البداية بأحد المرتفعات القريبة من البليدة، وبعد نحو شهرين اتصل بنا مسؤول ولاية الحزب محمد عبد العزيز، وكان يبدو مرتاحا لما قمنا به، طلبنا منه أن تتكفل بنا إدارة الحزب، خاصة من ناحية الإيواء والوثائق الشخصية المزورة، لكن عند عودته ثانية لمسنا على ملامحه بعض الفتور، فقد جاءنا بمقترحات لم تكن مقبولة في نظرنا، ما جعلنا ندرك أن القيادة غير متحمسة لمساعدتنا، مثلما سبق أن تحفظت على فكرة هروبنا ذاتها. بعد طول انتظار غامرت بالإنتقال إلى العاصمة، حيث آواني المناضل إبراهيم (البسكري) بحسين داي، ومن هذا المأوى أرسلت تهديدا إلى أحمد بودة بواسطة ابن أخيه عبد القادر بأنني عازم على الذهاب إلى مقر الحزب في حالة استمرار تجاهلنا. إثر هذا التهديد جاءني لحول وبودة، فأثرنا موضوع اكتشاف "المنظمة الخاصة" وقرار حلها، وكان رأي عضوي القيادة أن الإكتشاف يعود إلى ضعف في المنظمة ذاتها، وراح بودة يحاول تبرير قرار الحل، مؤكدا أن تأسيس المنظمة من جديد ممكن، بعد استيفاء شروط ذلك. لم أقتنع بمثل هذه التبريرات، وعارضت قرار الحل، مفضلا بقاءها ولو رمزيا، لدلالة على أن "اختيار الكفال المسلح مايزال قائما، واقترحت عليهما حلا وسطا: ألا نعتبر نحن قرار الحل خطأ من الإدارة أن تفكر الإدارة بجد في بعث المنظمة أو تأسيس ما يماثلها في أقرب الآجال. وتطرقنا بالمناسبة إلى بعض التفاصيل مثل: 1 تجنب الهيكلة الهرمية، واعتماد اللامركزية إلى أبعد الحدود 2 أن يقتصر الجهاز المركزي للتنظيم المنتظر على التنسيق والتوجيه فقط 3 الإنتشار الأفقي على الصعيد المحلي ذاته، فإذا اكتشفت خلية في مكان ما مثلا يبقى محصورا فيها، ولا يتعداها كما حدث ل"المنظمة الخاصة". 4 ضرورة الإستناد إلى قواعد خلفية، بدءا بالريف المراكشي وطرابلس الغرب. تم الإتفاق مبدئيا على هذا التصور، وافترقنا على وعد من لحول وبودة بأن يتكفل بنا الحزب في أحسن الآجال.. وعرفت لاحقا أن بلقاسم كريم ورفاقه من ثوار جرجرة أعربوا عن رغبتهم في استقبالنا، لكننا لم نهتد إلى الإتصال بهم. لقاء ثلاثي.. في "مونروج" انتظرت طويلا أيضا بملجأ حسين داي، ثم انتقلت إلى منزل العائلة في بوزريعة، حيث مكثت بضعة أشهر، هذا المنزل الذي ارتحلت إليه العائلة من بودواو سنة 1948 - كان عبارة عن مسكن وملجأ للثوار، فضلا عن مركز سري لإعداد مناشير الحزب التي كان يتولى رقنها المناضل عمر بن محجوب. بعد فترة، استبد بي الشعور في بوزريعة بأن إدارة الحزب نسيت وعدها! فغامرت ذات يوم بالنزول إلى ساحة شارتر، ولم اكتف بذلك، بل اعتصمت بالمقر خمس ساعات كاملة، وأنا مشهر سلاحي بوجه أعضاء القيادة الموجودين به! هذا الإعتصام أثمر وعدا مؤكدا هذه المرة! بتوفير الوثائق الشخصية المزورة خلال أسبوع. اقترحت علينا الإدارة السفر إلى مصر، فرفضنا أول وهلة، لكن بعد مهلة تفكير راجعنا موقفنا، على أساس أن يلتحق بن بلة بالقاهرة وأن أبقى بفرنسا، ولما تقرر تهريبنا إلى فرنسا، اشترطنا إسناد المهمة إلى مناضلين نثق بهم، وقد انتدب لذلك عبد الله فيلالي مسؤول هذا الجانب من النضال السري بمساعدة عبد القادر بودة وأحمد حدانو (الكابا) (2). تم تهريبي أولا في أواخر 1952، وبقيت على اتصال ببن بلة الذي التحق بي بعد بعضة أشهر، وفي فرنسا كلفتني اتحادية الحزب بالعمل أساسا في لجنة الإعلام والدعاية، وكان قد سبقني بقليل محمد بوضياف الذي أسندت إليه مهمة التنظيم بمساعدة مراد ديدوش. كانت إدارة الحزب قد قامت بعد فترة من قرار حل "المخ" بتعيين عدد من مسؤوليها الناجحين في مهام محددة، سواء في التنظيم السياسي (السر) أوفي الواجهة الشرعية (حركة الإنتصار). وفي أبريل 1953 انعقد المؤتمر الثاني للحزب بالجزائر فلم توجه إلينا الدعوة بالمشاركة، باعتبارنا من المناضلين "الثقال"! (3) عقب ذلك التحق بن بلة بفرنسا، لكن إدارة الإتحادية تكتمت على وجوده هناك، إلى أن جمعتنا الصدفة بباريس ذات يوم من أواخر صائفة نفس السنة، كنت يومئذ أقيم رفقة بوضياف بمقر للحزب ناحية "مونروج"، فبادرت بترتيب لقاء ثلاثي درسنا خلاله في جلسات متتالية مطولة وضعية الحزب وآفاق العمل الثوري. ومن أهم نتائج هذا اللقاء، تكليف بوضياف بمهمة التنسيق بين العناصر الثورية داخل الجزائر، والتوجه نحو إعلان الثورة اعتمادا على الإمكانيات المحدودة المتاحة، وعلى الجماهير التي ستحافظ حتما على جذوة الثورة حتى النصر. (يتبع) (1) حدود الولاية الرابعة تقريبا بعد مؤتمر الصومام (1956) (2) صاحب مقهى "البهجة" في بلوزداد، انتقل إلى جوار ربه في 11 يونيو الجاري (3) أي المطاردون من مصالح الأمن الذين يمكن أن يتسببوا في متاعب للحزب.