لا يمكنك أن تقاوم قشعريرة تعلو جسدك، وأنت تتصفح ولو على عجل صفحات مذكرات السيدة الكبيرة، زهور ونيسي، التي قدمتها أمس في يوم رمز ومكان رمز - متحف المجاهد - بمناسبة احتفالية خمسينية الاستقلال والتي حملت عنوان "زهور ونيسي عبر الزهور والأشواك.. مسار امرأة". يقشعر بدنك وأنت تقرأ قسنطينة بفخر ممزوج بمرارة، وتسبح بعيدا في جوف التاريخ قديمه وحديثه، ويقشعر بدنك وأنت تقرأ مقدمة الكتاب بتوقيع من سمي رفيق عمرها الأستاذ أحمد جابر زوجها، ويقشعر بدنك، وأنت تقرأ، بل تعيش معها، كيف رفضت أن تكون سببا في تعاسة امرأة أخرى دون إرادتها عندما زوجت لرجل كزوجة ثانية، وقاومت الأعراف والتقاليد.. وقاومت الرجال وقاومت وفد جمعية العلماء المسلمين بافتكاك الطلاق... وتبدأ مسيرة حياة جديدة، وهي التي كانت بصدد أن تكون زوجة مغمورة في إحدى قرى بسكرة النائية، لكنها غيرت قدرها، واختارت طريق قلبها وعقلها، لتصبح فيما بعد أول سيدة وزيرة في الجمهورية الجزائرية، وروائية ينحني لها الحرف وتسجد لها العبارة. لا يمكنك أن تقاوم دمعة تتسرب رغما عنك من مقلتيك، وأنت تقرأ قصص المرأة الثائرة، بنت البناي التي قالت لا لرجل اسمه العربي بلخير، عندما رفضت أن تمنحه كفالة للعلاج في سويسرا لأن الرئيس الشاذلي أمرها بألا تمنح كفالات أخرى، فقال لها بلخير رحمه الله "لا تنسي أن بيني وبين الرئيس باب" فردت بطلاقتها وجرأتها المعهودة "فلتطرق الباب!". مذكرات ثرية، عكست بصدق كبير آمال وآلام الجزائر، قبل وبعد الاستقلال، وألقت الضوء على الكثير من المحطات المنسية أو التي يحاول البعض طمسها في هذه المرحلة.، بل عكست الوجه المشرف للمرأة الجزائرية التي إذا أوكلت لها مسؤولية لا تؤديها بأمانة فحسب، بل تعطي أكثر مما هو مطلوب منها، فكانت "زهور" مزهرة في كل روضة زرعت فيها، فأنبتت وأثمرت. سيدة المقام العالي، الراسخة في الأصالة، المنفتحة على العصر والحضارة، الرافعة للواء الحرف العربي، حرف يسيل رقراقا في صفحاتها مثلما تسيل مياه "الرمال" بين فكي الصخر العتيق، الذي طبع طفولتها، ولقنها معنى الهوية وعزة الانتماء إلى مدينة اسمها قسنطينة ووطن اسمه الجزائر. الحرف العربي في حضرة السيدة الوزيرة يصير متوجا كالملك، عذبا كالسلسبيل، فلا تتمالك أن ترقص طربا لأنك تنتمي لهذا الجيل الذي نهل من أدب السيدة، في كتبنا المدرسية "ناوليني قنبلة يا فاطمة" وعناوين أخرى حفظنا نصوصها عن ظهر قلب، قبل أن تشاء الصدف ونقترب من ذلك الشعاع المضيء في سماء الأدب الجزائري الناطق بالعربية. ليس سهلا أن تكون امرأة في الجزائر، وليس سهلا أن تكون أديبا في الجزائر وفي غير الجزائر، وليس سهلا أن تكون معربا في زمن التغريب، وليس سهلا أن تكون أما تربي ابنها وحدها، فما بالك عندما تجتمع كل هذه الأمور في امرأة واحدة، إلى جانب المهام الأخرى، الوزيرة والصحفية والمجاهدة والمناضلة، والتي تقاوم الإرهاب. وعلى ذكر مرحلة الإرهاب الحالكة، فالسيدة التي أحرق بيتها في انتفاضة أكتوبر 1988 لأنها كانت وزيرة قبلها، ونسبت إلى النظام لم تقو زمن الإرهاب على الابتعاد عن الجزائر، فاختارت مثلما قالت "الهجرة إلى الجنوب" في إحالة جميلة إلى عنوان الأديب السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، فمكثت هناك في قرية منسية اسمها لبوة، ومكثت هناك ست سنوات، لم تهاجر خلالها إلى فرنسا أو إلى أي بلد آخر، بل اختارت عزلة جميلة أعادت خلالها قراءة صفحات التاريخ والحاضر، وعادت أكثر ثراء فكتبت وأبدعت ونشرت "لونجة والغول" وروايات أخرى. شكرا لك سيدتي على هذا الإنجاز الذي لا شك أنه سيعظم من مقامك لدى الأجيال. شكرا لك قارئتي الوفية. شكرا لك على كل ما قدمته للجزائر ولنا نحن الإعلاميات الفخورات بمسارك الثري.