سيدي يحيى.. أومملكة الأثرياء الجدد، كما يحلو للبعض أن يسميها، لم تكن حتى وقت قريب إلا مجرى لواد كنيس ومساحة كبيرة من الأشجار. كانت في فترة من الفترات مكانا يقصده حديثو العهد بالسياقة لقضاء ساعات يتعلمون فيها قيادة المركبات، قبل أن تحوله المندوبيات التنفيذية في عهد البلديات الإسلامية إلى عقار بيع بالدينار الرمزي، و قبل أن يتحول فيه العقار إلى سعر الذهب والماس؛ حيث يقدر اليوم كراء محل في تلك المنطقة بأكثر من 100 مليون سنتيم، أما أسعار العقار فحدث ولا حرج.. تستمد سيدي يحيى اسمها من اسم الولي الصالح الذي يرقد في مقبرتها "سيدي يحيى الطيار"، المعروف في المخيال الشعبي أنه صاحب كرامات، وشقيق لسبعة إخوة كلهم أصحاب كرامات ينحدرون من منطقة القبائل. لابد أن يكون هذا الولي نفسه قد منح جزءا من كراماته لهذا الحي الراقي وإلا ما كان تحول في بضع سنوات من مجرد غابة مهملة إلى مملكة الأثرياء، ومكانا للنميمة السياسية. سيدي يحيى قبل سنة 2000 لم يكن أحد يعرفها؛ قبل أن يطيح هذا الحي بحي حيدرة الذي كان في السابق جمهورية الأرستقراطية العاصمية ومكانا لإقامة رجال الدولة. بإمكان الزائر لسدي يحيى أن يعثر على كل الماركات العالمية؛ مثل "نايك"،"كريستيان ديور" و"كويك" و"ديكسيت" و"جيوكس". كما نجد به مقاهي راقية مثل "كابو جينو" و"أوثر بارك" التي يتردد عليها عدد كبير من حسناوات العاصمة، إذ تعد المقاهي الوحيدة بالعاصمة التي يمكن للنساء أن يجدن راحتهن فيها ويدخنّ بشكل علني دون نظرات مريبة، كما توفر هذه المقاهي نوعا من "النارجيلا" التقليدية التي لا نجدها في غيرها من مقاهي العاصمة، وتقدم خدماتها للزبائن والرواد إلى الساعات الأولى من الصباح. بنفس المنطقة أيضا نجد "الصفا والمروى".. مركز تجاري يديره مستثمر سعودي، وهنا أيضا فروع لبنوك أجنبية مثل بنك (سوسييتي جنرال) الفرنسي. كما يمكن في هذا الحي أن نجد أكبر الماركات العالمية وفروع لمحلات مشهورة مثل (مانغو) وسوق (زمزم)، الذي يضم أشهر علامات العطور مثل "شانال" و"باكورابان" و"كريستيونديور"، وأشهر علامات الألبسة مثل "بيار كار دان" و"كانزو" و"أرماني"، "بالزيليري" و"تريساردي"، زيادة على محلات المجوهرات والهدايا. وفي الواجهة الأخرى للشارع، تجد قاعات الشاي مثل "فيلودروم" و"كويك"، ومقاهٍ ذات أسطح مفتوحة على السماء، ملحقة بحظيرة لركن سيارات يرتادها حتى السياح ورجال الأعمال من الأجانب، فرنسيون وإيطاليون وألمانيون ولبنانيون ومصريون.. عبر سيدي يحيى تزدهر تجارة أخرى بشكل صامت وتربط مواعيد الطبقات الراقية، ويتعرف الرجل ذو المكانة بسيدات المجتمع أو المرشحات ليكن كذلك، لذا تقصده الكثير من الجامعيات الطامحات لتغيير واقعهن والفوز بلقب "مادام دليلة". ارتبط حي سيدي يحيى في المخيال الشعبي العاصمي بالكثير من القصص والروايات بعضها يقترب من الأساطير؛ حيث يطلقون عليه "حي الشبارڤ" و"البڤارة"، وهي الكلمات التي تعني في لغة الشعب البسيط "الناس حديثي العهد بالنعمة والثراء". فأسعار بعض الأشياء هنا تفوق الخيال وتتجاوز قدرة المواطن البسيط على تصورها فضلا عن تقبلها، خاصة إذا علمنا أن سيدي يحيى لا تبعد كثيرا عن واد كنيس السوق الشعبي التي يجد فيها العاصمي البسيط كل شيء بأسعار معقولة، بينما أسعار سيدي يحيى قد يبلغ بها الجنون حد بيع ثريا ب5 ملايين سنتيم، وقد يصل سعر فنجان القهوة إلى 200 دج وسعر كوب العصير إلى 300 دج. "دارهم بولحية بانو في سيدي يحيى" جاء ألبوم بعزيز "ماروتي" ليؤكد الخيال الشعبي حول هذا الحي، حيث غنى بعزيز "دارهم بولحية بانو في سيدي يحيى"، وهي إشارة واضحة إلى فئة التائبين والمستفيدين من أموال الأزمة الدموية التي تحولت إلى مشاريع تبييض الأموال في حي صار لصيقا بطبقة معينة من الناس. رغم تحول سيدي يحيى منذ مطلع الألفية الجديدة إلى مكان للاستقطاب التجاري والسياسي للنخبة الجديدة بالعاصمة، لكنه في المخيال الشعبي مازال منبوذا ولصيقا بطبقة الفاسدين من الذين يعشيون في الظل ولا يقتربون من الشعب، حيث تروى عن هذا الحي حكايات الذين يتحولون بقدرة قادر من ناس بسطاء إلى وسطاء وسماسرة في التجارة والأعمال وحتى السياسة، وتصير لهم الكلمة النافذة في المؤسسات والإدارات والأجهزة. سيدي يحيى.. لا تنام باكرا كعادة أغلب أحياء وضواحي العاصمة، كما تستقطب أصحاب لغة معينة ونمط معيشي معين، ربما هذا ما كرس صورتها في المخيال الشعبي العاصمي. أغلب لافتات المحلات مكتوبة بالفرنسية لكن أغلب أصحاب المحلات هنا لا يتقبلون هذه التسمية ويؤكدون أن سيدي يحيى مكان عادي يحاول أن يوفر مكانا يليق بالجزائريين وزوارهم من الأجانب، حيث يحتار الجزائري في إيجاد مكان محترم يأخذ إليه ضيوفه.. يقول نادل بمقهى "كابو تيشنو". نفس الرأي يشاطره إياه رواد مطعم "مريومة" اسم اختار صاحب المطعم أن يستعيره من اسم ابنته، المطعم يحمل نوعا من الخصوصية الجزائرية، حيث يقدم أطباقا تقليدية تختصر ثقافة الجزائر على شساعتها، حيث يمكن للزائر أن يجد تقاليد الغرب والشرق و الوسط وأعالي القبائل تقدم له في آنية فخارية أنيقة مرفوقة بموسيقى التندي الصحراوية، وحتى العصائر هنا تقدم على الطريقة التقليدية مصنوعة محليا، مثل عصير الليمون بالتمر والشربات ممزوجة بطعم النرجيلة التركية التي تذكر بالعهد العثماني في الجزائر. عندما تتحول aمطاعم إلى مطابخ سياسية زبائن بعض محلات سيدي يحيى من نوعية خاصة من الإعلاميين والمثقفين ورجال الدولة المتقاعدين، وبعض رجال الأعمال ومدراء المؤسسات والإدارات الرسمية الراقية، حيث يتحول هذا المكان إلى سوق كبير للنميمة السياسية وبورصة للتكهنات، لدرجة أنه خطف الشهرة من مقهى اللوتس في القرن الماضي، فالحكومة التي تأخر الإعلان عنها رسميا تنصب كل يوم هنا، وهنا أيضا توزع المناصب الوزارية ويتم تداول أسماء المرشحين، حتى أن بعض ما يكتبه الصحفيين تحت اسم "علمت مصادرنا" و"أفادت مصادر مقربة".. ليس إلا بعضا من ثرثرة مقاهي ومطاعم سيدي يحيى التي خطفت الأضواء من محمية نادي الصنوبر، التي كانت أيام الشاذلي بن جديد تلقب بالولاية 49، فصارت اليوم سيدي يحيى جمهورية الأثرياء الجدد.. كل شيء فيها قابل للبيع الشراء ومصائر المؤسسات والأفراد تقرر على طاولة شاي أوقهوة. ولكن حتى وإن كانت سيدي يحيا قد تحولت في بضع سنوات إلى مكان للاستقطاب السياسي والاجتماعي لكنها تحمل بعض صفات الفوضى"الجزائرية" خاصة من الناحية العمرانية، حيث تنصب الفيلات والبيوت التي تنبت مثل الفطريات بدون تخطيط عمراني ولا جماليات التشييد، وكأن هذا البلد لم تكن له يوما هوية عمرانية، ففي النهاية سيدي يحيى ليست أكثر من حي يضاف إلى باقي الأحياء الجزائرية التي صارت تقام على متغير واحد وتحت شعار واحد هو تشجيع ثقافة الاستهلاك.