لم يكن سيدي يحيى قبل سنة 2000 سوى مقبرة وولي صالح، وممر يؤدي من جهة إلى حيدرة، ومن جهة أخرى إلى بئر مراد رايس ومساكن كولونيالية قديمة ومجرى يصب في وادي كنيس تحت هضبة العناصر، لكنه أصبح، حاليا، قلب الجزائر العاصمة الذي لا ينام ومحج للأثرياء الجدد، فكيف حدث ذلك؟ عند التقاء حي بئر مراد رايس العريق وحيدرة التي لم تتنازل، يوما، عن أرستقراطيتها·· ولد هذا الحي الذي ينسب إلى الولي الصالح ''سيدي يحيى الطيار''، الذي يرقد في أعالي تلك الهضبة، وإلى غاية وقت قريب، لم يكن إسم ''سيدي يحيى'' يعني شيئا سوى تلك المقبرة وضريحها، إضافة إلى المجرى الذي ينتهي عند وادي كنيس في أسفل هضبة العناصر والذي كان، إلى وقت قريب، محجا لمن يريد شراء أي شيء بثمن بخس ولا يهم مصدره، لكنه بدأ يختفي، شيئا فشيئا، في إطار إعادة تهيئة ذلك الحي· وبعيدا عن وادي كنيس الذي يحتضر ببطء كسوق تجارية فوضوية، يعيش حي سيدي يحيى عصره الذهبي الذي بدأ مطلع مع هذه الألفية، وحولته إلى قلب نابض للجزائر العاصمة وبديلا حقيقيا للمراكز التقليدية ممثلة في ساحة الشهداء وشارع العربي بن مهيدي الذي عاش عصره الذهبي أيام ''الأروقة الجزائرية'' والرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد الذي حوّله، ساعتها، إلى شارع للمشاة قبل أن تعود إليه السيارات بصخبها في العشرية الموالية· ويبدو حي سيدي يحيى بوجه يغلب عليه إبهار الماركات والعناوين الكبيرة، من فروع لبنوك دولية إلى وكالات اقتصادية، إلى مطاعم كبيرة بواجهات عصرية، وخلف دخان المشاوي تقرأ autre part و''كويك''petit princeh le القادم من كويكب ''ب ''612 في رواية الفرنسي سان دو إيكزوبيري التي تحمل الإسم نفسه·· ولا يذهب التفكير بعيدا في الثقافة العالمية والمعولمة قبل أن يعود بعنوان le nomade الذي يحيل إلى البدو الرحل، وعندها لا نفاجأ إطلاقا بجمل حقيقي واقفا عند إحدى البنايات التي تبدو من طابقها الأول إمرأة ذات شعر أشقر والنادل يقف عند رأسها· ويبدو أنه يستمع إلى طلباتها وطلبات زميلتها التي تقابلها· عناق البداوة والحضارة تلك الصور التي تمتزج فيها البداوة بإحدى صيحات الماركة تختفي، فجأة، قرب العيادة التي تحمل إسم الكاتب والطبيب الراحل أحمد عروة الذي رحل قبل أن يرى الصورة الجديدة لسيدي يحيى المرتسمة على مدى العشر سنوات الماضية·· وعند الفراغ، يظهر الوجه الآخر لسيدي يحيى حيث يرقد الموتى في تلك الهضبة بالقرب من ضريح سيدي يحيى الطيار، ونحتاج إلى دورة كاملة حتى ندخل المقبرة من بوابتها الكبيرة، وعندها يرتسم مشهد غريب وعجيب، مقابر وأضرحة لموتى تحيط بها وتتوسطها مساكن لأحياء وهوائيات مقعرة تمتزج عند الرؤية بشواهد القبور، وفي الخلفية ملامح من الحياة الجديدة للحي بملذاته، وضريح سيدي يحيى الذي يظهر بقبته التقليدية يشبه عند مدخله مسكنا عاديا، وعند المدخل نجد عجوزا كأنها من زمن آخر، تسكن بجانب القبة وتسهر على رعاية الضريح·· إسمها ''ليلى''، عمرها 77 سنة، وأصلها من آزفون، وهي المنطقة نفسها التي ينحدر منها ذلك الولي، وتقول بشأنه أنه كان وسيما ومات أعزبا، وهو أحد سبعة أشقاء كلهم من أولياء الله الصالحين، وكل واحد له قبته الخاصة وضريحه في مناطق مختلف، وهو شقيق سيدي لكحل دفين منطقة حيدرة المجاورة، وتقول بأنها سكنت ذلك المكان عندما كان المتر المربع الواحد في حي سيدي يحيى ثمنه ''4 دورو'' (20 سنتيم)، ولا تقيم أي اعتبار لمن يريدون إخراجها من ذلك المسكن، ولا تخشى شيئا قائلة: ''أنا بنت القبور'' وتفتخر بأنها ساهمت في إعادة الإعتبار للضريح وترميمه، وقد استعاد نقاءه الأول وهيبته، عندما أتت بعامل وتكفلت مع آخرين بشراء كل لوازم الترميم، وعن حي سيدي يحيى أسفل المقبرة، تقول السيدة ليلى أنها تتذكر الأوروبيين الذين كانوا يسكنون هناك وتركوا كل شيء ساعة الإستقلال ورحلوا، أما عن التحولات التي حدثت في الحي منذ سنين قليلة، فالأمر لا يعنيها في شيء، وهي تعيش في تراب سيدي يحيى الذي ذهبت إلى زيارة بلدته الأصلية في منطقة القبائل·· ويغلب على كلام السيدة ''ليلى'' الخطاب الديني الصوفي بمخيال شعبي بسيط وهي تتكلم عن الحياة الجديدة في الحي، مؤكدة أنها لا تهتم بملذات هذه الدنيا الفانية· وسرعان ما تختفي ملامح ضريح سيدي يحيى الطيار، بالخروج من المقبرة، وتبقى العجوز ''ليلى'' في حراسته مثلما تفعل منذ مدة طويلة، لنستعيد ملامح الحياة الجديدة عند البنوك والمطاعم الفخمة، والمراكز التجارية على شاكلة مركز ''مانغو'' الذي يبدو نسخة عن المراكز التجارية في العالم المتقدم، يأتيه أصحاب الطبقة العليا في المجتمع من أجل التسوق ولا نصيب فيه للزوالية سوى التفرج بالعين لأن الأسعار لا يمكن تصورها، والثمن هو أضعاف متتالية مما هو عليه في العقيبة وسائر الأحياء الشعبية الأخرى في الجزائر، والباحث عن الثقافة المكتوبة يجدها في شكل جرائد ومجلات أجنبية تباع بأسعار مرتفعة جدا، ويبدو أنها موجهة لذوي الدخل المرتفع من الذين يريدون معرفة آخر الصيحات في عالم الأزياء والتجميل والإتكيت· مريومة··· غير بعيد عن فرع بنك ''سوسييتي جنرال'' الفرنسي بالجزائر، تظهر لافتة تشير إلى ''مطعم مريومة'' الذي يظهر من واجهته الخارجية أنه مطعم عصري عادي ولا يتميز إلا ببابه الصغير الذي يحيل إلى قبو عمارة بشكل عصري لا خصوصية فيه، لكن وما أن تتجاوز المدخل وسط سجاد أحمر حتى تشعر بأنك دخلت عالما مختلفا تماما، كأنك سافرت على بساط الريح في حكايا عالم ''ألف ليلة وليلة'' الشهيرة، لتحط في خيمة تحيل إلى عصر مضى في منطقة صحراوية بعيدة حيث تسمع موسيقى التندي التارقية الأصيلة، وتجد بعض الزبائن القلائل يتناولون الشاي والقهوة مع الشيشة الجزائرية القديمة التي تحيل، بدورها، إلى زمن التواجد التركي، والعمال يلبون طلبات الزبائن في آنية فخارية تقليدية، ويؤكد صاحب المطعم أنه استمد إسمه من إسم إبنته ''مريومة''·· بداية طفرة حي سيدي يحيى تعود إلى سنة 2000 عندما بدأت الجزائر تستعيد عافيتها بعد سنوات الجنون التسعيني، وبدأ مع تعليمة محافظ الجزائر الكبرى حينها الشريف رحماني بإجبار أصحاب المحلات على فتحها إلى غاية منتصف الليل، ومن ساعتها بدأ التقليد يترسخ في هذا الحي دون غيره من الأحياء وحرصت الكثير من المحلات فيه على فتح أبوابها إلى الثانية صباحا·· ومن جانب آخر، يؤكد صاحب المطعم وهو ''رابح· ب'' أن الدافع لفتحه مطعم ''مريومة'' بذلك الشكل التقليدي هو تحدي شخصي لتوفير فضاء أصيل لزبائن من النخبة الثقافية والإعلامية الذين لا يجدون مكانا يلتقون فيه، بدليل أنه يستقطب يوميا زبائن من هذا النوع، وعادة ما يأتون إليه مع ضيوفهم الأجانب، وهي فرصة حقيقة لاكتشاف وإعادة اكتشاف الوجه الأصيل للبلاد، فمن غير المعقول أن يأتيك أمريكي مثلا وتقدم له ''الهامبرغر'' الذي تركه في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو يأتيك إيطالي لتقدم له ''البيتزا'' التي تركها وبنوعية لا تنافس في إيطاليا·· ويقول صاحب المطعم أنه يحرص على تقديم مختلف الأطباق التقليدية الجزائرية من الأطباق الصحراوية إلى القسنطينية إلى السطايفية والقبايلية والتلمسانية والعاصمية الأصيلة وغيرها·· وهو بصدد البحث عن مختلف الوصفات التقليدية من أجل إعادة تقديمها في أطباق فخار عريقة هي الأخرى·· وبدأت قصة هذا المطعم، أول مرة، عندما جاءه ضيف من الخارج وكان ساعتها مقاول ولم يجد أي مكان يأخذه إليه، وعندها قام بكراء ذلك القبو الذي كان موحشا ومهجورا تحت عمارة عادية ليقوم بترميمه وإلباسه ذلك اللباس التقليدي الجميل، ويفتخر صاحب المطعم بتقديمه لعصير من اختراع مؤسسته وأسماه عصير ''مريومة'' وهو خلاصة التمر والليمون والتفاح ورغم أنه عصير طبيعي مئة بالمئة، فإن سعره لا يتجاوز ال300 دينار جزائري، وهو أغلى كل العصائر التي تقدمها مؤسسته للزبائن وهي في عمومها عصائر جزائرية أصيلة منها ''الشربات'' المصنوعة من الليمون ويصنعها بشكل جيد، ويعدد أسماء بعض الكتاب الصحافيين والمثقفين المعروفين الذين يحرصون على المجيء إلى خيمته، نافيا صفة ''البفارة'' التي تطلق على زبائن حي سيدي يحي في العموم، موضحا أنها من الأفكار المسبقة والتي ليست صحيحة في كل الأحوال· سيدي يحيى و''دراهم بولحية'' سيدي يحيى، على عكس أحياء الجزائر العاصمة والمدن الجزائرية عموما، لا ينام باكرا، وربما لهذا السبب استطاع استقطاب البورجوازية الجديدة التي تشكلت في أعقاب الأزمة الدموية التي عرفتها البلاد، وربما لهذا السبب ارتبط في المخيال العاصمي والجزائري، عموما، بتلك الفئة التي تسمى في اللغة الشعبية ''البفارة'' والذي يعني ''تجار البقر'' الذين يحصلون ثروات طائلة وبطرق مشبوهة، ثم يبددونها في الملاهي ويصدرون تلك الأنماط الثقافية التي لا تمد للحضارة بصلة·· ولعل ارتباط صورة سيدي يحيى العصرية في أذهان الطبقات الواسعة من الناس البسطاء قد لخصها المطرب ''بعزيز'' أحسن تلخيص في أغنيته التي يقول فيها: ''دراهم بولحية·· بانوا في سيدي يحيى·· بفار وراء بفار''، وعبارة ''دراهم بولحية'' تشير بوضوح إلى ما أشيع عن الأموال الكبيرة التي جناها الأفراد السابقون للجماعات المسلحة وعملوا، بعد ذلك، على تبييضها عندما استفادوا من تدابير الوئام المدني والمصالحة الوطنية· الولي الصالح الذي قهر المعمرين يؤكد الكثير من الناس أنه من مظاهر التحولات العميقة التي حدثت داخل المجتمع الجزائري، بروز مدن وأحياء وموت أخرى، ولعل سيدي يحيى هو أبزر مثال على ذلك، واستطاع هذا الممر الصغير الواقع بين حيدرة وبئر مراد رايس، الذي كان لا يذكره أحد سوى كحي سكني لا يعرفه إلا أهله والمرتبطون بهم، وكمقبرة تحمل ضريح ولي صالح استمدت إسمها منه، لكنه تمكن، في غفلة من الزمن، أن يسرق الأضواء من شوارع عريقة مثل شارع العربي بن مهيدي (إيزلي سابقا) وشارع ديدوش مواد (ميشلي سابقا) والذي شيده المعمرون الفرنسيون بطريقة هندسية لا مثيل لها إلا في كبريات المدن الغربية، وكان لا يدخله الجزائريون الأصليون زمن الإحتلال الفرنسي إلا بتأشيرة، وربما هي سخرية الأقدار جعل ولي صالح منسي يتغلب على كبار المعمرين بجبروتهم، وقد أصابهم بلعنته·