نعيش، في هذه الأيام، أجواء روحانية عطرة ونسمات ربانية تظلنا، ففيها يؤدي المسلمون عبادة يصفها الفقهاء بعبادة العمر وختام الإسلام وكمال الدين، تلك الرحلة الإيمانية التي تهفو إليها أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتشتاق إليها النفوس، وتنير بها العيون، وتشحن بها النفوس بطاقة متجددة تخلصها من آثام الدنيا وأحقادها. وعلى من ينوي القيام بهذه الفريضة أن يعلم أنها ليست مجرد تأدية لمناسك وتحمل مشقة ونفقات فحسب، بل هناك عدد من الدروس الروحانية التي تكون وراء كل نسك من هذه المناسك التي يقوم بها . تبدأ هذه الدروس التي يستشعرها الحاج من وقت استعداده لأداء هذه الرحلة الإيمانية، فيقوم الحاج بمراجعة نفسه ومراقبة ذاته، كما لو كان لسان حاله يقول له “أنت ذاهب للقاء ربك فعليك أن ترد المظالم وتقوم بتسديد ما عليك من ديون، وتصل رحمك الذي قطعته، وتطلب رضا والديك، وإلا كيف ستذهب وتقف أمام الله طالبا عفوه وساعيا لرضاه وأنت على هذه الحالة.. فيعلن توبته، ويجدد نيته ويخلص إلى الله في كل أعماله، راغبا في قبول حجته ومتذللا لله ليغفر لله كل ما اكتسبته نفسه. ويتخلى بعد ذلك عن كل ما له بالدنيا من صلة من لبس من أبهى الأنواع وأغلاها والعطور الثمينة، متجردا من كل مظاهر المادية، ساميا بروحه لينال شرف الضيافة على هذه المائدة الربانية، تاركا كل الأهواء الدنيوية من رياء وشهرة وسمعة ليتعلق بنور السماء.. فنجد رسولنا الكريم يوجهنا بالدعاء فيه قائلاً “اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة”، ويقول: “لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً”، كما لو كان يذكرنا صلوات ربي عليه بضرورة التخلص من الرياء الذي آفة العبادة، وهو الذي يبعدها عن الدرجات العالية في الروحانية، وهو في ذاته الشرك. فمن خلال الإحرام يرى الحاج أول هالات الروحانية من إخلاص لله وتوجه له وحده، لذا نجده يعلنها لنفسها مؤكدا لما يدور بها “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.. ليجد بعد ذلك نفسه في عالم رباني الكل فيه يردد اسم الله ويعمل لله مراقب له في كل شي، فبمجرد دخوله إلى تلك البلد الأمن “مكة” يجد قوافل الإيمان التي جاءت طالبة المغفرة والعفو من الخالق، هتافهم تسبيح، ونداؤهم تلبية، ودعاؤهم تهليل، مشيهم عبادة، وزحفهم صلاة ، وسفرهم هجرة إلى ربهم، وغايتهم مغفرة من الله ورضوان، مجتمعين على كلمته ، متأملين لبيته، مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص، تركوا البلاد والديار والأهل والأولاد، والتجارة والأعمال، قاصدين بيت الله الحرام، يعيشون في رحابه، وينعمون بقدسيته، متشرفين بضيافته، متلمسين لرحمته، مستهدفين المغفرة، مستمطرين الرضوان، كما قال ربهم: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}.