عندما نتكلم عن تهميش المرأة، فإننا لا نبالغ أبدا، فنحن من هذا المجتمع ولدنا وتربينا فيه، ولا نستنسخ أفكارنا من أحد.. ربما قد نختلف مع بعض السيدات والسادة ممن بقوا عند نفس التفكير الذي ربوا عليه كون أن ما حققته المرأة في مجتمعنا شيء خارق للعادة..؟ لكن تطور ملكاتنا الثقافية التي كان يجب على الجميع أن يقوم بها، واحتكاكنا بالعالم الخارجي تجعلنا نحسن طريقة تفكيرنا وبالأخص تكييف فراستنا وقراءتنا للأشياء من منطلق التمحيص والمقارنة وهذا ما حثنا عليه الله سبحانه وتعالى في كل شرائعه وتوجيهاته.. في بحر هذا الأسبوع توفيت سيدتان كبيرتان قدمتا الشيء الكثير للمجتمع الجزائري عموما وللمرأة الجزائرية خصوصا، سيدتان كريمتان رسمت من خلالهما الصورة النموذج للمرأة الجزائرية الرائعة، لكن مع الأسف لا نكاد نجد لذكرهما مكانا في غالبية الصحافة الوطنية المحشوة بالمواضيع التي قد لا نحتاج لكثير منها.. الأمر الذي أرجعه، طبعا في اعتقادي لشيئين اثنين: إما للجهل الكبير بهما، أو لسبب آخر في نفس يعقوب كما يقولون، وهو ممارسة التهميش المقصود أو غير المقصود الذي أصبح قدر المرأة الفكر والعقل، المرأة الرمز والنموذج، التي يراد لها ذلك مهما سمت ومهما قدمت لهذه الأمة.. وللاثنتين صفات مشتركة ربما كانت السبب الأكبر في نسيانهما، وهي صفات البساطة والتواضع وعدم التظاهر.. فيوم الأحد الماضي، سلبنا القدر أستاذة القانون بجامعة وهران السيدة "فاطمة الزهراء ساي" التي درست الأجيال لسنوات طويلة، ولأنها حازت على رسالة الدكتوراه في مجال "نضالات المرأة الجزائرية" فإن صيتها لم يسطع مقارنة مع غيرها من المخربشات على الورق اللائي ملأن الدنيا بالضجيج، ورغم أنها كانت عضوا فعالا في المجلس الوطني للمرأة والأسرة الذي أنشىء بمرسوم رئاسي، فإنها لم تستفد من تعزية رئاسية بسيطة مثل غيرها من المعينين بمرسوم، ولم تشفع لها كتاباتها المتعددة وبحوثها الكثيرة حتى في أن تنال تنويها من وزيرة التضامن والأسرة.. ناهيك عن الصحافة التي بالتأكيد كانت في غالبيتها تجهلها ولا تعرف حتى كتاباتها.. بعدها بثلاثة أيام، توفيت إحدى أكبر المناضلات في القضية الوطنية، التي جعلت من تجنيد المرأة الجزائرية دعامة في الدفع بمشاركة الجزائريات في ثورة التحرير وهي السيدة "مامية شنتوف"، المرأة المناضلة في حزب الشعب الجزائري والتي كان لها الفضل مع مجموعة من المناضلات الجزائريات في تنظيم أكبر تجمع للمرأة الجزائرية في عام 1947 بقاعة "الماجستيك" آنذاك تحت اسم النساء المسلمات الجزائريات.. سيدة من الرعيل الأول الذي شارك في الثورة الجزائرية، والمؤسسات الأوائل والأمينة العامة للإتحاد العام للنساء الجزائريات في عام 1966، ومع ذلك نجدها تعامل بنفس المعاملة، وإن كانت هي أكثر حظا من السيدة "ساي" لأنها أبنت بكلمات حتى وإن كانت مختصرة من وزير المجاهدين الذي سطر لها اعترافا، وعرف باسمها لدى الأجيال الشابة..؟ لماذا يا ترى ترسخ تقاليدنا المجتمعية معاملة التجاهل للمرأة، مكرسة دوما أبجدية عدم الاعتراف، رغم أن النساء هن الأقل أخطاء عند ممارسة مهامهن، والأكثر تفانيا في عملهن،والأخلص في حب الوطن، ومع ذلك نجد اعترافا فائقا بأقل الكفاءات الرجالية إذا ما تمت المقارنة النزيهة الخالية من التمييز والتهميش.. هل القصور نابع من المرأة ذاتها التي لا تعرف تسويق بضاعتها، أم القصور من المهيمنين على دواليب الدولة والإعلام، أم هناك أسباب أخرى لا ندركها.. وللتأكيد أكثر أعطيكم مثالين من كثير من الأمثلة الواقعية التي صادفتني من قطاعات إعلامية وطنية وعربية عن مجاهدات جزائريات أسرن العالم في وقت ما بنضالهن، فقد سئلت في إحدى سفرياتي للشرق عن المجاهدة "جميلة بوحيرد" إن كانت ما زالت على قيد الحياة، ونفس السؤال طرح علي من طالبات جامعيات جزائريات.. وفي عام 2008 عندما نظمت جمعيتنا ملتقى عربيا عن الكتابة النسائية ونضالات المرأة، والذي كرمت فيه بعض المجاهدات ومنهن جميلة بوباشا، تفاجأت بصحفية من جريدة النهار اللبنانية، التي حضرت اللقاء بوجود اسم جميلة بوباشا، وسألتني نفس السؤال، أي إن كانت ما زالت على قيد الحياة..؟ ولكنها تفاجأت أكثر عندما زارتها في بيتها وتعرفت على بساطتها فقالت لي بالحرف الواحد: "أهي البطلة؟ هي بنفسها التي تقدم لنا القهوة.. لو كانت في بلدنا لرأيت شيئا عجبا.. ما هذا التواضع..؟ ولما عادت إلى بلدها كتبت ذلك في مقالها بجريدة النهار.." هكذا هن الجزائريات، لكن من يعي.. ومن يقدر..؟ كانت المجاهدات دوما في الواجهة، بل وفي المقدمة، فقد ضحين بكل شيء في سبيل الجزائر، ولذلك تراهن يسارعن في كل مرة إلى تلبية النداء عندما يدركن أن الوطن في محنة، أو عندما تهان المرأة أو تحقر.. هن اليوم هنا يناضلن أيضا مع الجمعيات النسوية تحت شعار "لا للعنف المعادي للمرأة! ولا للتحرش الجنسي..! ولا للإفلات من العقاب"، هن هنا مؤازرات للمعنفات إلى جانب الجمعيات النسائية الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق النساء على اختلاف توجهاتهن وبرامجهن، ويطالبن الحماية من وزير التشغيل والضمان الاجتماعي اتخاذ المزيد من الإجراءات من أجل حماية النساء في محيط العمل ووضع حد لظاهرة التحرش الجنسي التي أخذت في الاستفحال، معتبرات التحرش شكلا من أشكال العنف والتمييز ضد النساء الذي يشكل انتهاكا صريحا لحقوق وكرامة النساء"، مثلما وقفن إلى جانبهن في نضالات أخرى كثيرة كتعديل قانون الأسرة والجنسية والمشاركة السياسية وما إلى ذلك.. فهل تعي المرأة اليوم قيمتها ودورها في معرفة موقعها وتاريخها النضالي العريق، ومن ثمة استغلاله في التواصل مع هذا النوع من النساء اللائي كتبن تاريخهن بأحرف من ذهب وليس بالحبر.. رحمة الله عليك يا فاطمة رحمة الله عليك يا مامية، وتحية إكبار وإجلال لكما حتى لو همشكما الجميع فنحن ندين لكن ونفتخر بإنجازاتكن.." إنا لله وإنا إليه راجعون".