الجزء الأول وأخيرا صدر الجزء الأول من مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، بعد أن سبق الإعلان عن نشرها أكثر من مرة في السنوات الأخيرة (*) وقد ارتأينا أن نستعرض في هذه الحلقة شهادات، حول محاولة العقيد الطاهر الزبيري قائد أركان الجيش، الإطاحة بالرئيس هواري بومدين في 14 ديسمبر 1967. وهي شهادة قاطعة لاتكتفي بإثبات التهمة على العقيد الزبيري وحده، بل تتهم معه أربعة ضباط سامين آخرين هم: - العقيد أحمد بوجنان (عباس) قائد مدرسة شرشال لمختلف الأسلحة، - الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى(البليدة). - الرائد محمد الصالح يحياوي قائد الناحية العسكرية الثالثة ( بشار). - الرائد عبد الرحمان بن سالم قائد حامية العاصمة. وتؤكد شهادة الرئيس الراحل حول هذه النقطة بالذات، أن أية شهادة إنما تعبر عن جانب فقط من الحقيقة التاريخية، جانب قد يمليه ظرف معين. وبعبارة أوضح أن الرائد بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية اعتبر محاولة جس نبض من أصدقائه وزملائه السابق ذكرهم "مؤامرة"، وجعلهم شركاء لقائد الأركان في حركته الانقلابية، بينما كانوا مجرد وسطاء بتكليف من الرئيس بومدين شخصيا، لقد زج بهم في "المؤامرة"، لمجرد أنهم كانوا متعاطفين في مواقفهم مع قائد الأركان، بحكم الصداقة والأقدمية في الجهاد.ولأبراز نسبية شهادة الرئيس بن جديد، ارتأينا اعادة نشر جانب من شهادة العقيد الزبيري (1) التي سجلناها عنه قبل 24 سنة، وكذلك شهادة العقيد محمد الصالح يحياوي التي رد فيها على ما جاء حول دوره في مذكرات هذا الأخير الصادرة في المعرض الدولي للكتاب السنة الماضية (2). وذيلنا الحلقة بما جاء في مذكرات الرئيس الراحل حول مقتل الرائد السعيد عبيد، من خلال اشهاد أرملته على "انتحاره". إعداد محمد عباس قلت للعقيد الزبيري: "أرفض تعويد الجيش على الانقلابات"
"كنت على دراية بوجود خلافات بين الرئيس هواري بومدين وقائد الأركان. لكني لم أكن أتصور أن تصل الأمور الى حد استعمال القوة للاستيلاء على الحكم... شعرت والحق يقال بخطورة الموقف ببوزريعة، في بيت عبد الرحمان بن سالم الذي دعانا لتناول الغداء، بعد اجتماع لمجلس الثورة وقادة النواحي. كنا خمسة: السعيد عبيد، عبد الرحمان بن سالم، العقيد عباس، يحياوي وأنا. تناولنا الغداء في جو أخوي، وتحدثنا في عدة قضايا كانت تشغلنا آنذاك ... لم أدرك في تلك اللحظة أن هناك مؤامرة تحاك في الخفاء.. وأني طرف فيها من حيث لا أعلم. انتقلنا إلى الصالون لتناول القهوة، فلاحظت أن كل الجماعة صامتة، لم يفاتحني أحد بما كان يدور في أذهانهم، لاحظت أنهم غمزوا السعيد عبيد، لأنهم كانوا يعرفون الصداقة المتينة التي تربطني به ..ثم طلبوا منه أن يكلمني باسمهم. نهض السعيد عبيد، وقال بنبرة أحسست فيها نوعا من اللوم والعتاب والاستنجاد في نفس الوقت: - هل يعجبك الوضع يا سي الشاذلي؟ أقصد الوضع الذي تعيشه البلاد؟ هل أنت راض عن هذه المشاكل؟ - أجبته: أية مشاكل ؟ - رد: المشاكل التي يتخبط فيها البلد. هل يعجبك ذلك؟ - قلت: كل البلدان تعيش مشاكل، حقيقة هناك مشاكل كثيرة، لكني أعتقد أنها يمكن أن تحل بالحوار، وفي أطر المؤسسات القائمة. - رد: حاولنا حلها في أطر المؤسسات القائمة، ولم نصل الى نتيجة. المشاكل التي كان يقصدها السعيد عبيد، هي أن بومدين وجماعة وجدة استحوذوا على سلطة القرار، وأن مجلس الثورة لم تعد له أية فعالية، بعد أن غادره العديد من أعضائه، وأن بومدين حيد تقريبا قيادة الأركان، ومنح جل الصلاحيات في وزارة الدفاع إلى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي. فهمت أن الجماعة تخطط لمحاولة انقلاب على بومدين، خصوصا بعد أن أضاف السعيد عبيد: "نحن مطالبون الآن باتخاذ قرار حاسم".. قلت لهم :... سأكون ضد كل من يستعمل القوة والعنف للاستيلاء على الحكم.. وأريد منكم أن تعرفوا هذا جيدا، حتى لا تقولوا أن الشاذلي خاننا.." .. بعد خروجي من دار بن سالم، أدركت صعوبة الموقف وخطورة الوضع .. ذهبت إلى بيت الطاهر الزبيري في الأبيار وقلت له: كنت مع الجماعة وأطلعوني على نواياهم ، وأريد أن تعرف أنت موقفي ...: "هناك مؤسسات، وأنني لست مستعدا لتعويد الجيش على الانقلابات التي أصبحت موضة في المشرق العربي وأفريقيا وآسيا". لم يعلق الزبيري على كلامي، غير أنني فهمت من صمته أنه مصمم على تنفيذ خطته .. ذهبت فورا إلى رئاسة الجمهورية وطلبت مقابلة الرئيس بومدين. قلت له جئت لأسلم عليك، وأتمنى لك التوفيق في مهامك. أنا عائد اليوم إلى وهران. أي موقف تتخذه سيكون موقفي، وستجدني إلى جانبك... لم يعلق بومدين على ما قلته. وحين ابتسم وهو يودعني فهمت أن المخابرات أطلعته على المؤامرة، فقد كان واثقا من نفسه. ولم يبد أية علامة للقلق أو الاضطراب. عدت إلى وهران جوا رفقة محمد الصالح يحياوي الذي طلب مني أن أضع تحت تصرفه مروحية، ليلتحق بالناحية العسكرية الثالثة، لكني رفضت، متحججا بأن الثلج لا يسمح بالطيران، وكنت في الواقع أعرف أنه يريد أن يعود بسرعة إلى ناحيته، لتحييدي ومنعي من التدخل ضد القوات الموالية للطاهر الزبيري. في منتصف شهر ديسمبر تحركت الوحدات الموالية لقائد الأركان من المدية ومليانة والأصنام.. وكنت على اتصال دائم مع بومدين. أطلعه بتفاصيل الاستعدادات .. طلب مني أن أرسل فصائل من رماة البزوكا، لأن الزبيري كان يزحف نحو العاصمة بالدبابات.. أرسلت طائرتين على متنهما فصيلتان، حطتا في مطار بوفاريك. ومن هناك تنقل جنود الفصيلتين مباشرة الى العفرون، حيث تحركوا فوق التلال في انتظار قدوم الطائرات.. وقبل ذلك قد أرسلت فيلقا، احتل ثكنة اسناد الانقلابيين في الأصنام، لقطع الدعم عنهم... بدأ رماة البازوكا في قصف الدبابات الزاحفة (باتجاه جسر بورومي)، فأحرقوا عددا منها، تسبب في سد الطريق ومنع تقدم بقية الدبابات؛ كما تعطلت دبابات أخرى في الطريق. وانتهى الأمر في أقل من ربع الساعة، بعد ضربات البزوكا وتدخل طائرات الميغ 17 و 2 ... بعد فشل العملية هرب الطاهر الزبيري وبعض من جماعته، وربما هرّبه الأمن الذي أمن له عبور الحدود التونسية. عقب هذا الفشل جاءني قاصدي مرباح، وطلب مني أن أسلمه ضباط الناحية الثانية المتعاطفين مع الانقلاب، لكني رفضت، وحين اشتكاني إلى بومدين، طلب منه أن ينسى الأمر قائلا: "الشاذلي مسؤول عن تصرفاته" (من صفحة 226 إلى 231). شهادة العقيد الزبيري قبل 24 سنة: الناحية الأولى كانت كافية للإطاحة ببومدين
كنا أجرينا مع العقيد الطاهر الزبيري في ربيع 1988 حديثا مطولا، حول محاولة الانقلاب على بومدين في ديسمبر 1967، نشرناه أولا في أسبوعية "التضامن" اللندنية التي كان يصدرها الصحافي اللبناني فؤاد مطر، ثم أعدنا نشره في صحيفة السلام بداية نوفمبر 1990. ونعيد اليوم نشر مقتطفات من الحديث، لتسليط مزيد من الأضواء على شهادة الرئيس الشاذلي بن جديد الصادرة أخيرا. في البداية نسجل ملاحظتين: - أن العقيد الزبيري قبل 24 سنة كان يتحدث عن العقيد عباس والرائدين السعيد عبيد وعبد الرحمان بن سالم كوسطاء بينه وبين بومدين، لا كشركاء له في مشروعه. - أنه لم يذكر حينئذ الرائد محمد الصالح يحياوي بين هؤلاء الوسطاء. كان العقيد الطاهر الزبيري قائد أركان الجيش الوطني الشعبي قد لخص شعوره بالتهميش في منصبه هذا، وشكاوى أعضاء مجلس الثورة من الضباط السامين المجاهدين، والضباط المجاهدين عامة في موقف محدد: مقاطعة احتفالات فاتح نوفمبر 1967، بدءا بالاستعراض العسكري الذي كان يقاوم بهذه المناسبة. وبرر هذا الموقف بمطلب موجه إلى الرئيس بومدين رئيس مجلس الثورة، ألا هو "دعوة مجلس الثورة الى الانعقاد بكامل أعضائه لتمكينه من شرح موقفه أمامه". كلف الرئيس بومدين السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى بالاتصال بصديقه الزبيري (3) في محاولة لامتصاص غضبه، ثم تطوع كل من العقيد عباس قائد أكاديمية شرشال والرائد عبد الرحمان بن سالم لنفس المهمة، بتشجيع من الرئيس بومدين. وكان مما اقترح العقيد عباس على قائد الأركان، سفرة استراحة بالخارج ريثما يصفو الجو، أو الاعتزال بعض الوقت في مسقط رأسه (وادي الكباريت بالقرب من الونزة). في إطار هذه المساعي بادر بومدين بزيارة قائد الأركان في بيته، وقام هذا الأخير برد الزيارة، لكن سماء العلاقة بين الرجلين ظلت مع ذلك مكفهرة، تنذر بعاصفة وشيكة... مساء 12 رمضان الموافق ل 13 ديسمبر 1967 جمع السعيد عبيد على مائدة الإفطار العقيد الغاضب والوسيطين الآخرين عباس وبن سالم... وفي قاعة الضيافة بعد الافطار وأمام فناجين القهوة والشاي... كان الحرج باديا على المضيف، هو يتأهب لإبلاغ قائد الأركان مضمون الموقف الأخير للرئيس بومدين: يرد على مطلب استدعاء مجلس الثورة بالرفض، وأكثر من ذلك يرفض بقاء قائد الأركان في الجيش! وهكذا انفجرت العاصفة! "وقد تأثر قائد الأركان أكثر بموقف السعيد عبيد، وبعض الضباط السامين الذين كانوا طرفا معه في بداية الأمر، ثم تحولوا إلى وسطاء... ليميلوا في النهاية الى الطرف الأقوى، مستعدين لقبول التضيحة به"... غادر العقيد الزبيري منزل السعيد عبيد على جناح السرعة، مبيتا وضع قائد الناحية الأولى أمام الأمر الواقع، باحتلال مركز قيادته في البليدة، وتجميع القوات الموالية هناك وقبل الزحف على العاصمة. وتطبيقا لهذا المخطط خرج العقيد الزبيري إلى قرية الشبلي، ومنها اتصل بمساعده في الأركان العامة الرائد عمار ملاح، يأمره بتحريك الفيالق المرابطة في كل من الأصنام (الشلف) ومليانة والمدية، على أن تتجمع ناحية العفرون، لتزحف من هناك على مقر الناحية الأولى ... لم تتم الخطوة الأولى في المخطط، كما كان يتوقع العقيد الزبيري؛ إذ تأخر وصول فيلقي مليانة والمدية، واعترضت القوات الموالية لبومدين أرضا وجوا سبيل فيلق المدرعات الذي كان يقوده النقيب العياشي جواسنية، وحدثت المواجهة بالقرب من العفرون مساء الخميس 14 ديسمبر. كان بومدين قد لاحظ تردد الرائد السعيد عبيد في مواجهة الموقف، فأرسل زرقيني وهوفمان لاستلام القيادة منه، والتصدي للمهاجمين بدله... ويقول العقيد الزبيري إنه وجد نفسه وحيدا في نهاية المطاف، فقد خذله الكثيرون، وكانت الناحية العسكرية الأولى وحدها كافية لعزل بومدين، لولا تردد قائدها الرائد السعيد عبيد الذي تقول المصادر الرسمية إنه انتحر في مكتبه بمقر قيادة الناحية، عند الساعة الخامسة من فجر الجمعة 15ديسمبر 1957؟! يحياوي في رد مسبق على الشاذلي: قلت للزبيري: "الخيانة.. ليست من طبعي"
قبل الفاتح من نوفمبر 1967 بأسابيع، جاءني إلى بشار قائد الأركان العقيد الطاهر الزبيري مصحوبا بالرائدين زرڤيني وبوتلة، وكان الثلاثة غير راضين عن وضع قيادة الأركان والصلاحيات الممنوحة لها، وعلاقتها بوزارة الدفاع، فضلت ألا أشارك في الحديث، فأنا لم أكن أطمئن لبعضهم. لم يقل لي العقيد سي الطاهر طيلة وجوده بالناحية الثالثة أي شيء عن خططه، وعما كان ينوي القيام من الفاتح من نوفمبر. وقبل أيام من التظاهرة اتصل بي الملازم الأول عيسى بخوش قائد مدرسة المدفعية بالتلاغمة، وكان بالعاصمة للمشاركة في الاستعراض العسكري، ليخبرني أنهم تسلموا أمرا من قيادة الأركان للمشاركة في الاستعراض بالذخيرة الحية، وهذا شي خطير، وغير مألوف من قبل، فنبهته للمخاطر، وحذرته من سلوك هذا الطريق... أما غياب قائد الأركان يوم الفاتح من نوفمبر عن الاستعراض، فقد أخبرني به العقيد عباس، وبعد هذه الحادثة كلف الرئيس بومدين العقيد عباس والرائد بن سالم بالانضمام إلى الرائد السعيد عبيد قائد الناحية الأولى، للمشاركة في تهدئة الأوضاع التي بدأت تطفو على السطح، ووضع حد للشوشرة داخل الجيش، والتي أثمرت "حركة 14 ديسمبر" بقيادة العقيد الزبيري أما ذهاب هذا الأخير إلى ثكنة الليدو (الصنوبر البحري) حيث الفيلق المدرع بقيادة الملازم الأول العياشي حواسنية.. فقد أخبرني به الرئيس بومدين بنفسه.. وطلب مني القدوم إلى العاصمة للمشاركة في المساعي التي يبذلها الإخوة الثلاثة المذكورون آنفا.. وقد عملنا نحن الأربعة كل ما في وسعنا لتفادي المحظور، ونجحنا في اقناع الزبيري بأبعاد فيلق المدرعات إلى الشلف... وطيلة أيام الأزمة التي استمرت أسابيع كنت أتجنب لقاء سي الطاهر على انفراد، كنت أعلم أنه ينسق مع العقداء القدامى ومنجلي ولعروسي (خليفة) وآخرين وهم كثرة.. وكان فعلا يخطط لعمل ما، كما أكد ذلك (الرائد عمار) ملاح، لكن صادف ذات ليلة أن تقابلنا أمام منزلي، فطلب مني أن أذهب معه إلى منزله.. كان منزله دائما مليئا بأناس لا أعرفهم، ولا أطمئن إليهم، جلسنا معا في غرفة منفصلة عن الصالون.. تحدثنا عن الأوضاع، وفهمت أنه يريد التغيير.. قلت له في تلك الليلة بصراحة "ليس من طبعي الخيانة والغدر! بومدين وضعني على رأس ناحية من أخطر النواحي، ولا يمكن أن أطعنه في الظهر!" قلت ذلك بقصد إبعاد سي الطاهر عما كان يفكر فيه، غضب مني وقال: هذا أنت؟! وهكذا افترقنا. السعيد عبيد.. الحياد القاتل أرملة الفقيد ترجّح "انتحاره" "ظل السعيد عبيد مترددا، وقرر اتخاذ موقف حيادي، ففقد بذلك ثقة بومدين والزبيري في آن واحد، أمر جميع وحدات الناحية الأولى بالدخول إلى الثكنات، وقال لقادتها: لا تتدخلوا دعوهم يقتتلون فيما بينهم "لست مع جماعة بومدين.. ولست مع جماعة الزبيري".. لكن جماعة الزبيري كانوا يزرونه في بيته، هددوه وشتموه ووصفوه بالجبان، خاصة (عبد العزيز) زرداني، وقد ساءت حالته النفسية بفعل ذلك، وضاقت الدنيا في عينيه. بعد فشل عملية الانقلاب، وجد السعيد عبيد ميتا في مكتبه، وراجت آنذاك شائعات بعضها يقول إن كومندوس قتله، وبعضها الآخر يتهم سليمان هوفمان بقتله، وغيرها من الشائعات التي تروج في مثل هذه الحالات. صدّقت فيالق الناحية الأولى شائعة مقتل السعيد عبيد، فاعتصمت بالثكنات والمعسكرات وأغلقت الأبواب.. معلنة بذلك عدم اعترافها بالنظام، كان بومدين حكيما، فاتصل بي، وطلب مني أن أقنعهم بالعدول عما قاموا به.. وقال لي "إنهم يحترمونك ويصغون إليك، فحاول معهم...". اتصلت هاتفيا بقائد فيلق في تنس، كنت أعرفه، وطلبت منه الاتصال بقادة الفيالق الأخرى، وتبليغهم تعهدي بتوضيح ملابسات موت السعيد عبيد، قلت له "إننا سنجري تحقيقا جديا، وحين نتأكد أن جماعة ما، هي التي قتلته، سنتخذ الإجراءات الضرورية وفقا للقانون". اتصل قادة الفيالق بعضهم ببعض، وقرروا الرجوع إلى النظام.. أردت أن أعرف الحقيقة، وأقطع الشك باليقين، وأفي بالوعد الذي قطعته على نفسي في آن واحد، ذهبت إلى بيت السعيد عبيد، وكان قبل ذلك يدعوني أثناء تواجدي بالعاصمة إلى تناول الغداء أو العشاء معه، استقبلتني زوجته، وكان الحزن لا يزال باديا على وجهها، وكانت تبدو منهارة، قلت لها: جئت لأراك، تعرفين أن القضية خطيرة، وأريد منك أن تصارحيني بالحقيقة، ترددت قليلا ثم قالت لي "السعيد انتحر"، "هو اللي قتل روحو"، ثم أضافت: لكنهم دفعوه إلى ذلك.. كانوا يرديون منه أن يقف إلى جانب الطاهر الزبيري.. كانوا يأتون إلى البيت.. ومنهم عبد العزيز زرداني الذي كان يشتمه، ويشتم عائلته، سمعته يقول له "أنت جبان.. أنت لست شاوي" وكان هو يستمع إليهم مطأطئ الرأس ساكتا". قبل أن ينتحر أحسست أنه يودعني بالتليفون قال لي إنه مسافر إلى مكان بعيد، والظروف لا تسمح له أن يتصل بي، وقال لي: حين يكبر الولد، أعطيه قميصي وعليه شاراتي.. تعجبت وأجبته مستغربة: أنت لما كنت تذهب في مهمة أو تسافر بعيدا، كنت دائما تهتف لي، فأجابني "إلى حيث أنا ذاهب لايوجد تليفون"، قلت: أنت قافز، وستجد التليفون وتتصل بنا. ولم أكن أدري أن هذه الكلمات كانت آخر ما أسمعه منه".. (يتبع)
(*) صدر عن منشورات دار القصبة (1) طالع الشهادة الكاملة في كتابنا "نداء.. الحق" الصادر عن دار هومة الجزائر 2001 (2) الشروق اليومي عدد 24 أكتوبر 2011 (3) السعيد عبيد هو الذي توسط لكسب ولاء قائد ولاية الأوراس، لتحالف بومدين وبن بلة غداة وقف القتال في 19 مارس 1962.