بعد عام من انطلاقة الانتفاضة الشعبية في الأراضي المحتلة ”ديسمبر 1987” والتي انتشرت في كافة المدن والبلدات، صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الملتئمة بالجزائر 15/11/1988 وثيقة ”إعلان الاستقلال” التي سطرت قيام دولة فلسطين، كانت الجزائر أول من اعترف بهذه الدولة ثم توالت الاعترافات بعد ذلك إلى أن تجاوزت المائة دولة خلال أعوام محدودة.. إنها بالأساس محطة سياسية نوعية، ولدتها المعطيات التي صنعتها الانتفاضة، بمفاعيلها ومستوى التضحيات الشعبية وارتباطها بالمراحل النضالية التي شقت مجراها الثورة الفلسطينية المعاصرة. إذا كان هذا الإعلان بتلك الفترة يشكل استجابة لحاجة وطنية فرضها تطور النضال الوطني التحرري والتحديات التي تواجهه، كان أيضا ضروريا لمتابعة متطلبات بناء مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني على أسس وطنية في الأراضي المحتلة.. بعد ذلك كان الوضع الفلسطيني ولا يزال يؤكد بأن إعلان الاستقلال يلزمه الخطوة المفصلية، المتمثلة في: تجسيد هذه الدولة على أرضها تبعا لمحددات وضوابط البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية ”حق العودة، تقرير المصير، إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس” إنها المهمة الكفاحية التي يرتبط تحقيقها بتوفر العوامل التالية: 1- دحر الاحتلال نهائيا عن كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس. 2- الوحدة الإقليمية بين القطاع والضفة، وهذا يعني وجود حكومة وسلطة تنفيذية واحدة تدير شؤون المنطقتين وتتحكم بهما، وليس حكومتين أو سلطتين... الخ 3- مؤسسات تشريعية ورئاسية منتخبة بشكل ديمقراطي.. 4- بناء اقتصاد وطني مستقل ومتحرر من التبعية للاقتصاد الصهيوني وإلغاء البروتوكول الاقتصادي المشترك مع دولة الاحتلال الموقع في باريس عام 1995. هناك فهمان أو تياران في الساحة الوطنية يختلفان بالرؤية السياسية كخلفية لتجسيد الدولة بدحر الاحتلال، وهذا لا يمنع وجود بعض التقاطعات ينهما بين الفترة والأخرى تفرضه طبيعة الصراع مع دولة الاحتلال الصهيوني، تيار يعتبر طرد الاحتلال لا يتم إلا من خلال ممارسة كافة أشكال النضال المتاحة وفي مقدمتها المقاومة المسلحة، بالتلازم مع توفير باقي المقومات المترابطة، كالوحدة الوطنية، صمام الأمان والصمود، والبرنامج السياسي الواضح والمشترك، حشد كافة الطاقات والإمكانيات الوطنية والشعبية، ومؤسسات منظمة التحرير في هذه المعركة، بالتالي يعاد بناؤها على أساس ديمقراطي... الخ. والتيار الثاني الذي يسعى إلى فرض انسحاب جيش الاحتلال من خلال المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية ومسار التسوية السياسية التي ترعاها الإدارة الأمريكية بشكل منفرد، مع استبعاد تام لخط المقاومة المسلحة. لقد حاولت حكومة تصريف الأعمال في رام الله القيام بعدد من الخطوات توطئة للإعلان عن قيام الدولة على أرضها، أي ”فرض” الانسحاب على الصهاينة، وتم تحديد سقف زمني في هذا الاتجاه، حيث أعلن الدكتور سلام فياض رئيس الحكومة في شهر 8/2010 عن ”وثيقة فلسطين” كبرنامج للحكومة الفلسطينية، التي أكدت ”على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 في العام 2011” ونصت أيضا على ”أن إقامة الجولة خلال فترة العامين القادمين أمر واجب وممكن”، معتبرا ”أن هذه الخطوة تشكل الركيزة الأساسية للأمن والاستقرار والسلام بالمنطقة”. في هذا الإطار بذل رئيس الحكومة جهودا في تشييد المؤسسات والمنشآت التي تخضع بطبيعة الحال للإمكانيات الفلسطينية. لكن النقاط المحورية التي لم يجب عليها برنامج هذه الحكومة ورئيسها هي: كيف يمكن إقامة الدولة المستقلة على أرضها في ظل وجود الاحتلال واقتصاد تابع له، هل يمكن المراهنة على العامل الخارجي أساسا للحصول على الاستقلال، هل يمكن للمفاوضات الثنائية في إطار التسوية السياسية تحت الخيمة الأمريكية أن تحقق ذلك. ماذا سطرت التجربة، بالرغم من تحديد موعد قيام الدولة لأكثر من مرة إلا أن الاصطدام بواقع الاحتلال وسياساته القهرية قد أفشلت الخطط المبنية على المراهنات. هناك فرق بين النوايا الحسنة وبين الوقائع التي يفرضها الاحتلال الاستعماري التي تحول بالمعنى العملي دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وكان قبل ذلك قد أعلن رئيس الحكومة الأسبق أبو العلاء في فترة وجود الراحل أبو عمار عام 2004 عن رأيه في تصريحه الشهير الذي نص على الدعوة لإقامة دولة ثنائية القومية، تعبيرا عن ردة فعل اتجاه سياسة الدموي شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق واتجاه نتائج خيار التسوية والمفاوضات، وكرر السيد أبو العلاء خرجته هذه، بالمقابل شهدت مؤسسات منظمة التحرير نقاشات باتجاه الإعلان عن تجسيد الدولة كنقطة تصادم مع الاحتلال، لكن دون اتخاذ قرار بهذه الوجهة. هذا التموج في التعامل مع الموقف من تجسيد الدولة يؤكد أن خيار المفاوضات لوحدها دون المقاومة ودون الوحدة الوطنية وفي ظل ميزان قوى لصالح دولة الاحتلال ومخططاته وتحالفاته، لا يمكن أن تطرد الاحتلال أو ترغمه على الانسحاب، هذا ما حصل بعد عقدين من المفاوضات. إن اللجوء للأمم المتحدة من أجل الحصول على العضوية غير الكاملة من جمعيتها العامة قد تم بقرار إجماع وطني، وبعد أن أفشلت الإدارة الأمريكية الطلب الفلسطيني بالعام الماضي في مجلس الأمن من أجل الحصول على العضوية الكاملة، حيث حالت دون الحصول على على قرار من اللجنة القانونية التابعة لمجلس الأمن، والتوجه إلى الأممالمتحدة هو أيضا رد على مجمل السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية العدوانية، بالتالي فشل المفاوضات الثنائية، هذا القرار الوطني قد يخرج الوضع الفلسطيني من المراهنات غير المجدية. لماذا تسعى الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية لإفشال الخطوة الفلسطينية، بل إن الأخيرة هي التي تخوض معركة إفشال الطلب الفلسطيني من الجمعية العامة، معتمدة على قوة نفوذها وعلاقاتها الدولية وضغطها الاقتصادي. أولا، دحض الرواية الصهيوينية التي لا يزال متشبعا بها جزء رئيسي من الرأي العام الدولي وتحديدا في البلدان الاستعمارية أو ذات الإرث الاستعماري، ولأن إسرائيل جزء من الظاهرة الاستعمارية، هذه الرواية التي تستند إلى تزوير التاريخ، وما مقولة ”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” إلا جزء من هذا التزوير إضافة للرواية التوراتية حول علاقة اليهود بفلسطين. إن وجود دولة فلسطين بالهئة الأممية ومؤسساتها، سواء بالعضوية الكاملة وهو الحق الطبيعي أو غبر الكاملة، يعني تكذيب لتلك الرواية الصهيوينة... الخ. ثانيا، تبعا للقانون الدولي تصبح أراضي الضفة والقطاع أراضي الدولة الفلسطينية، بالتالي تنتهي المقولة الإسرائيلية بأنها أراضي متنازع عليها، أي هناك دولة تحت الاحتلال تخضع لنصوص الشرعية الدولية بل يصبح من حق وواجب هذه الدولة متابعة كافة القرارات التي صدرت من الأممالمتحدة والخاصة بحقوق شعبها في المراحل المختلفة والتي تمكنت الإدارة الأمريكية من شطب بعضها ولا زالت تحاول شطب الأخرى وبالذات تلك الخاصة بحق العودة. ماذا بعد نجاح المقترح الفلسطيني أولا، تحقيق الوحدة الوطنية على أن يتمخض عنها حكومة واحدة في الضفة والقطاع، دون ذلك سوف يتوفر للطرف الآخر مقومات الطعن في المناسبة التي يحددها، والكل يتذكر طبيعة الطعن الذي قدمه المندوب الأمريكي في اللجنة القانونية التابعة لمجلس الأمن الدولي باجتماعها قبل عام من أجل بحث الطلب الفلسطيني الخاص بالعضوية في الهيئة الدولية، حيث أشهر هذه النقطة بالذات، أي وجود سلطتين وحكومتين، هذه هو الستار الذي أفشل الطلب الفلسطيني. ثانيا، بعد إتمام الوحدة الوطنية بالارتكاز على الرؤية السياسية المتفق حولها، يتم الانتقال إلى إجراء الانتخابات بعناوينها الثلاثة: التشريعية، الرئاسية ثم الخاصة بالمجلس الوطني، أي استكمال الخطوات التي تعطي الطابع الشرعي والديمقراطي للسلطة في الضفة والقطاع. ثالثا، الاستعداد القانوني المدروس من قبل ذوي الاختصاص من أجل خوض باقي المعارك السياسية والقانونية في المؤسسات الدولية لجهة الحصول على عضويتها أو لملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة. على أهمية وضرورة استعادة الحقوق التي حرم منها شعبنا في المنظمات الدولية وبغض النظر عن نجاح الطلب الفلسطيني، وهو المرجح، أو نجاح الإدارة الأمريكية في إفشاله، فإن فلسطين التاريخية، من أقصاها إلى أقصاها، كانت وستبقى لشعبها العربي الفلسطيني، دون ذلك فهو تزوير لحقائق التاريخ والإمعان في قهر شعوبنا، ولن يكتب النجاح لأي حل إلا بإقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل تراب فلسطين التاريخية، حيث يتساوى جميع أبنائها وسكانها بالحقوق والواجبات ودون تمييز أو تفرقة على أساس العرق أو الدين أو الانتماء السياسي والعقائدي، لكن الجسر الوحيد الضامن لتحقيق هذه التسوية التاريخية العادلة هو تنفيذ القرار الأممي رقم 194 الذي صدر عن الأممالمتحدة في 11/12/1948 الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي رحلوا عنها عنوة بقوة الإرهاب الصهيوني.