أستسمح القارئ العزيز أن أطل عليه من خلال هذه النافذة لأبث فيها شيئا من النوازع والهواجس التي تملكتني إلى حد البكاء، وإن كنت أعلم مسبقا أن الكثيرين سوف يواجهونني بسيل من المعارضة والانتقادات وربما حتى إخراجي من الملة واتهامي بالعلمانية والتحرر، لأنني ببساطة سأكون من وجهة هذه النظر متطرفا ومتجرأً. لا أقول على حدود من حدود الله ولكن على حدود من حدود العرف والتي ترسخت في الأذهان إلى حد أن أصبحت من الشرع والدين والفقه. لا أخفيكم أمرا إن قلت لكم أن ما جعلني أكون جريئا على الرغم من العواقب التي سأواجهها في عالم مصنف في الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة... وربما حتى الألف: هو شعوري بالغضب العارم الممزوج بفواصل من الضحك الهيستيري، وأنا أتابع حصة في إحدى الفضائيات الجزائرية التي استثمرت وبشكل ذكي الحالة المزاجية والإدراكية لشعب يختزل موروثا روحانيا خاطئا لا يقبل المساومة فيه أبدا، وهي تتعرض لموضوع الرقية وصاحبها الشيخ بلحمر والذي نال في ما يبدو شهرة واسعة وذلك من خلال آلية التعزيز والتدعيم لهذا الاعتقاد والذي ما فتئ لا أقول يكبر يوما بعد يوم، وإنما يتعاظم ويترسخ بشكل عطل الحياة الفكرية والاجتماعية والتربوية والثقافية... إلخ. بداية أريد أن أشير إلى أنني كنت أتصنع الصبر الجميل وأنا أتابع مشاهد هذا البرنامج والتي اختلطت فيه الزورانية بالروحانية، والاستفزازية بالكوميدية التي ما فتئت تتعالى إلى الذروة، لأن ما عرض فعلا يدعو إلى الغضب والاستفزازية. سوف لن أطيل عليكم أكثر من هذا لأكشف فحوى هذا البرنامج أو لنقل هذا التهريج الذي تشابه كَيْفا ومضمونا مع مسرحية ”شاهد ما شافش حاجة”. غير أن بطلنا الشيخ بلحمر في هذه الحصة كان يصر على أن يكون شاهدا بدرجة الامتياز ومرتبة الشرف العليا الذي شاف كل حاجة وهو لم ير شيئا. في حصة وسمت ”هذه حياتي” والتي يلعب فيها هذا الشيخ دور الراقي والمعالج والشافي الذي يشفي كل الأمراض، لا وبل حتى تلك التي استعصت على الطب الحديث فراح يخوض في كل الميادين ومن دون احترام لتخصص أصحابها فهو تارة يكون عالما باللغة ويتكلف بعناء شديد التفرقة بين مصطلحات الساحر والمشعوذ والكاهن بشكل تجاوز حتى القواميس والمعاجم، وتارة أخرى يصبح طبيبا مختصا يتفوق فيها على أهل الاختصاص بالخوض في أعراض مرض السكري والضغط والحمل وهو يتكلف على نفسه حفظ مصطلحات طبية تفوقه، يدورها كل ما اقتضت الضرورة حتى يبين مدى جدارته وأحقيته بالميدان الذي يشتغل به، وتارة رهبانيا يفقه في أحوال العرافة والفراسة والكهانة والروحانية... إلى غاية أن تخلى عن كل الأدوار السابقة وتحول إلى كوميدي أو لنقل مهرج يحدث الناس عن زواج الإنسي بالجنية والجني بالإنسية بما لا يدع مجالا للشك أو حتى الريبة الطفيفة. وكم كان أكثر كوميديةً فاق هذه المرة حتى عادل إمام أو جيم كاري أو غيرهما ممن برعوا في هذا المجال وهو يجيب عن سؤال مصير هذا التزاوج بالقول أن المرأة تحمل حملا يتبخر بعد مدة من التزاوج. في هذه اللحظة بالذات كان الشاي الصحراوي قد وصل إلى حدوده الدنيا ومعه صبري كذلك، خاصة حينما دخل في حوار مع جني يهودي جاء من البلاد البعيدة وبالذات من آلاسكا وهو لا يحسن من اللغة الانجليزية إلا yes/no وبعض الكلمات التي يعرفها العامي والخاص وحينما يصل إلى مغاليق اللغة ينتقل بقدرة قادر أو عفوا بقدرة جان أحمر أو بعبارة أدق بلحمر إلى الحديث باللغة العربية الفصحى تارة والعامية تارة أخرى. وكأن هذا الجني الآلاسكي نسي لغته الأصلية وأخذ دروسا في العامية الجزائرية. لا والأدهى والأمر أنه ”ناس ملاح” كذلك على حد وصف صاحبنا العبقري وهو يقولها بابتسامة عريضة تنم عن الاستخفاف بالعقول التي نامت على أطراف قبور الأولياء، والرقية الشرعية وغير الشرعية والسحر والكهانة. في حقيقة الأمر لقد زال عجبي بسرعة وأنا أرى شيخنا (جيم كاري) يسوق سيارة ”فولكسفاغن” فارهة مصنوعة بإتقان ألماني أو بالأحرى رقية ألمانية، يفوق ثمنها المئتي مليون سنتيم كسبها من أموال رقوية جراء التدفق المهول من الأمواج البشرية التي تنتظر على أعتاب باب مكتبه المرموق جدا، وسذاجة شعب جريرته الوحيدة أنه طيب جدا. وفي خضم هذه الهواجس وأنا أرى هذه الطوابير الطويلة، خالتني فكرة، قلت في نفسي سأقترحها على صاحبي بلحمر والتي بلا شك سيستحسنها كثيرا، ألا وهي استحداث وزارة قائمة بذاتها نسميها وزارة ”الرقية الشرعية” وبطبيعة الحال يكون القائم عليها بلحمر يرقي من خلالها كل المؤسسات النظامية وغير النظامية مثلما رقى الفريق الوطني المريض. وأكيد سأدعوه أولا إلى رقية وزارة بابا احمد وإخراج الجني الآتي من آلاسكا والذي سكن هذه الوزارة منذ عقود ولكن هذه المرة بمترجم يحسن الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، فلعل النظام التعليمي يفيق من غيبوبته على يده المباركة. ثم سأدعوه إلى إخراج الجني القادم من الهند والبلاد البعيدة والذي تلبس وزارة الصحة فعاثت فيها الأمراض فسادا. ومن ثم إلى باقي الوزارات المسكونة بالفساد والرشوة والبيروقراطية. ولكن قبل أن تتبوأ سيدي الكريم وزارتك الجديدة، أرجو أن يتسع صدرك وتجيبني على بعض الأسئلة. - ألم يصادفك طوال حياتك المهنية إنسي عربي تلبسه جني ألماني وسيره نحو اختراع فولكسفاغن مثل التي تركبها، أم فقط صادفت العفاريت القادمة من آلاسكا؟ وألم يصادفك جني ذكر شاذ من أصحاب النجاسة وأراد أن يتزوج بإنسي ذكر وحملا حملاً هو الآخر تبخر عند الشهر السابع أو الثامن؟! - ما قولك في المنتخبات البرازيلية والألمانية والإيطالية التي فازت بأكثر من بطولة وهي التي تتوجه لها أنظار العالم من دون أن تنخفض طاقاتهم أو يصابوا بعين حاسد أو شرر مشعوذ، بخلاف الفريق الوطني الذي لا يشاهده إلا المناصر الجزائري ومناصر الفريق المنافس. فلماذا فريقنا الوحيد الذي يحتاج إلى الرقية؟! - هل تعرف أن الحالات التي تدعي أنك تعالجها هي حالات مرضية لها تفسيرات علمية في العرف النفسي تعرف بمرضى الاضطرابات التفارقية الانشقاقية والتي ينسلخ فيها الفرد من شخصيته ويغير صوته؟ لأن العقل البشري غير محدود وخاصة حينما ينتقل من الوعي إلى اللاوعي. هذا إذا ما علمنا أن المريض يأتي إلى الراقي وقد سلم نفسه إليه مسبقا. - ألم يتجرأ جني واحد على الأقل وهو صاحب هذه المعجزات العظيمة أن يتلبسك أنت ولو لمرة واحدة وأنت الذي تناظره كل يوم وليلة. أم أنك محصّن بما فيه الكفاية فلا يمكن للجني أن يتلبسك فيها؟ ومادمت أنت قادرا على تحصين نفسك فهل الآخرون لا يستطيعون ذلك، إلا برقيتك التي تكلف دراهم معدودات؟؟ ألا يمكنك أن ترشدهم إلى ذلك أم أن ذلك سيوقف عنك هذه الثروات الطائلة؟! ألا تستطيع بكل بساطة أن ترشدهم إلى كيفية تحصين أنفسهم مثلما تفعل أنت وتوفر عنهم عناء التنقل إليك؟! - متى يكف أمثالك عن إثارة الفتنة وبث الجهل وسط شعب لم يجد ما يسد به الرمق؟.. متى يدعوا أمثالك إلى صرف هؤلاء الحشود إلى التمسك بحبل الله. مثلما فعل خالد بن الوليد ومحمد الفاتح وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم ممن توكلوا على الخالق حق التوكل من دون أن يتعرض ولا واحد من أفراد الجيش بمس أو تلبس.. وهم الأولى بالمس (من وجهة النظر التي تطرحونها) من قبل الجان اليهود حتى يصيبونهم بالهزيمة النكراء؟! - في يوم الحساب: أسأحاسب أنا عن أفعالي أم الجان الذي تلبسني.. أم هي مجرد وسوسة وبعدها سيتبرأ الشيطان من أفعاله كما قال الله عز وجل ”كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين”؟! - ألا يوجد من كل هؤلاء المشعوذين من يُِصَنَفْ في خانة مشعوذ ”ناس ملاح” ويسلط الجان الملونة باللون الأزرق والأحمر والأصفر ولو لمرة واحدة حتى يتلبسوا رؤساء اليهود في العالم وحاشيتهم فيكفو أذاهم عنا؟! - هل مستواك التعليمي أو حتى تخصصك يؤهلك لأن تفسر الأحاديث والقرآن مثل حديث: الشيطان يجري مجرى الدم. هل تدري أن فهمك للحديث جانب الصواب كلية؟! سيدي الكريم سأوافقك الرأي لأول مرة في حياتي ولعلها تكون الأخيرة، وهي أننا فعلا نحتاج إلى رقى عديدة وليست رقية واحدة. نحتاج فعلا إلى رقية العمل الألماني والتفكير الياباني، وجهد الصيني وعقلانية الإنسان المسلم المتحرر من الخزعبلات... يا معتصماه ألا حررتنا من براثن بلحمر وبلزرق وبلصفر فأعيد فيك قول الشاعر: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ في مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ يا ابن باديساه ألا عدت فخلصتنا من أفكار زواج الجني بالإنسية والتلبس.. وتفسر معنى قوله عز وجل ”الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ”، فتفسر أن التخبط في هذه الآية معناها الوسوسة وأن المس في اللغة ليس التلبس وأن المعنى يختلف كلية. وتؤكد أنه ليس للشيطان أي سلطة على الإنسان. وأن حتى الإنسان يوسوس لأخيه الإنسان، وتعيد بتذكير قول الله عز وجل ”وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي”. ألا عدت وذكرت بأن الإنسان يستطيع أن يرقي نفسه من دون دفع أموال باهظة من شخص لا يعدو إلا مستغلا لحاجة أخيه الإنسان. يقول الله تعالى ”وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ”، وعلى أمل ألا يفسر من أمثال بلحمر النزغ على أنه تلبس ودخول. في لحظات فارقة ذرفت دموعا وأنا أتفرج على هذه الترهات وأنا الذي عدت قبل أيام من عاصمة تركيا وقد وجدتها قد قفزت قفزة نوعية نحو التقدم وهي التي لم تك شيئا قبل سنوات. وقد أدركت أن الذي رقاها أردوغان وهو شخص أحسن الرقية بالعمل الجاد والاهتمام بالسياحة والقضاء على المحسوبية والرشوة وعلى أمثال بلحمر الذين ينشرون الخرافات... فإلى متى تبقى الأمة العربية هي الوحيدة القابعة في دائرة السحر والشعوذة والعين. وفي هذا المقام لا أستغرب أبدا تخلفنا مادام وزراؤنا وولاتنا ومن يقوم بشؤون البلاد يهرعون إلى أمثال بلحمر. ونحن نفتقد من مثل أردوغان ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الرئيس السابق للبرازيل. قبل قليل كنت قد دعوت من باب التهكم إلى استحداث وزارة الرقية. ولكنني الآن ومن باب الجدية أدعو إلى استحداث فرع نفسي ينشق من وزارة الصحة تعنى بالحالة النفسية للشعوب العربية من باب أن الجسم السليم يعطينا عقلا سليما. وفي الأخير أدعو السلطات إلى غلق مثل هذه المنافذ التي تستغل سذاجة العقول في عصر صعد فيه الإنسان إلى القمر واحتل الكواكب الأخرى. وفتح معاهد تدرس الدين الصحيح، كجامع الأزهر والذي يكاد يجمع مشائخه على رفض هذه الطروحات التي تدعي التلبس والتزاوج... وإلى ذلكم الحين أدعو الله أن يهدينا إلى الخير كله ويجعلنا من الذين يتوكلون عليه حق التوكل ويجعلنا أمة منتجة وفاعلة.