من لا يعرف مقام الشهيد أو رياض الفتح، حيث كانت الرحلات المدرسية التي تنظم للتلاميذ النجباء تتباهى دائما بكونها تفتح الأبواب أمام أبناء البسطاء لدخول “هبل الجزائر” كما أسماه معارضو توجهات الشاذلي بن جديد. مقام الشهيد، أو رياض الفتح، ذاك المعلم الذي يتربع على عرش “صالومبي”، ويرمز إلى فترة جد خاصة في تاريخ الجزائر المستقلة، حيث كان مقام الشهيد إلى وقت قريب رمزا لعهد الشاذلي بن جديد الذي أراد التنكر لإرث بومدين الذي تميز بالتقشف والابتعاد عن كل مظاهر الترف والرفاهية، بينما جاء الشاذلي بن جديد ليحمل شعار”من أجل حياة أفضل”، والتقارب مع الغرب والانفتاح على الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية. كان المكان المفضل لدى ”لا تشيتشي” فإلى منتصف التسعينيات كان رياض الفتح المكان المفضل للطبقة الجديدة أوالأغنياء الجدد، أو تلك الطبقة التي كان صعودها قرينا بزمن الشاذلي والشاذلية، والتي كان يلقبها العامة من البسطاء ب”لا تشيتشي”، حيث كان ثمن قهوة يومها في رياض الفتح يصل إلى 100 دج، في وقت كان ثمنها في المقاهي الشعبية لا يزيد عن 10 دج. أما الغذاء في رياض الفتح فحتما كان يوازي ميزانية عائلة لمدة تزيد عن شهر كامل.. لكن ماذا حل برياض الفتح اليوم في زمن العولمة والمساحات التجارية المفتوحة على كل شيء؟ عندما دشن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد مقام الشهيد يوم 28 أفريل 1986 كان يعتبر “إنجاز مجمع الفنون يندرج في السعي الدؤوب لتحقيق رخاء مجتمعنا وازدهار حياة مواطنينا في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ومثل هذه المنشآت الهامة تعكس بحق طموح شعبنا إلى التجديد، وتؤكد تصميمه على المضي في طريق التقدم، والتطلع دائما نحو الأفضل. إننا نهدف من هذا الإنجاز إلى ترقية محيط مناسب ينمّي الذوق السليم، ويسهم في إبراز الطاقات المبدعة، ويحقق التوازن بين مطالب الحياة المادية والفكرية. وأملنا أن يكون هذا المجمّع إطارا ملائما لنمط راق للتعامل، ومنطلقا لنشاط خلاّق، يعبّر بصدق عن ثقافتنا الوطنية الأصيلة ويستجيب لدواعي التنمية والنهضة في بلادنا'' . الشاذلي أراد مسح العجز الذي بدء يظهر على النظام هكذا أراد الشاذلي بن جديد مسح فترة الراحل هواري بومدين وفتح عهد جديد في عالم ومحيط دولي اتسم بنهاية الحرب الباردة وبداية التقارب بين القطبين وبداية انهيار أحلام الاشتراكية، وكذا ترويض الأذواق وإيجاد متنفس اجتماعي للأزمات والعجز الذي بدء يظهر على النظام آنذاك، من بينها الاحتجاجات وبداية تزايد حدة التيارات المعارضة من الإسلاميين والتيار البربري. أيام عز مجمع الفنون برياض الفتح كان المكان المفضل لنجوم المجتمع من رجال السياسية والمال. حتى أن الكثير من الحكايات نسجت حوله لأنه كان مكانا خاصا ومغلقا في وجه قطاع واسع من أبناء الطبقات البسيطة، حيث كانت الأسعار هناك تقارب الخيال مقارنة مع الدخل المتواضع لقطاع واسع من أبناء الشعب البسيط. لكن اليوم فقد المكان الكثير من بريقه وسحره أمام ظهور أماكن أخرى لطبقات جديدة، حيث صارت تلك المساحات تبحث عن زبائن وربما عن مجرد زوار بشق الأنفس، وحتى التظاهرات التي تنظم هناك منذ مجيء الوزيرة تومي لم تعد تغري بجلب الزوار. انهيار حلم رياض الفتح مع انهيار نظام الشاذلي حيث بدأ انهيار حلم رياض الفتح وقطب الفنون مع بداية انهيار نظام الشاذلي بن جديد مع نهاية الثمانينيات، وزادت حدة الاحتقان الاجتماعي مع بداية انهيار سعر النفط وغياب بعض المواد الاستهلاكية من السوق ونشاط المضاربة وارتفاع نسبة التضخم. في هذا الجو وجدت الدعاية المضادة والمعارضة، خاصة الإسلاميين ،فرصتها في قصف كل ما يمت بصلة للنظام ورموزه الثقافية والاجتماعية حيث لقب مقام الشهيد ب”هبل”، كبير آلهة قريش في الجاهلية، خاصة في المناسبات الرسمية، حيث كانت الوفود الرسمية الوطنية والأجنبية تتوافد على المكان لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، وهي المظاهر التي كانت محل استهزاء من رموز المعارضة آنذاك. في السابق كان رياض الفتح المكان المفضل لكل مظاهر الانفتاح، حتى أن سمعته ارتبطت بطبقة جديدة تسمح باللقاءات الغرامية والعشاق والشبان خارج الإطار الشرعي للزواج، في وقت كانت مثل هذه المظاهر غير مقبولة في أماكن أخرى. أما اليوم فلم يعد هذا المكان يستهوى أحدا، فالشبان صارت لهم أماكن أخرى للقاء ورياض الفتح صار مجرد أطلال يشير إلى مرحلة مضت وانقضت. أصحاب المحلات التي كانت في السابق تقارب المحلات الكبرى في العواصم العالمية من حيث الأسعار، أصبحت اليوم لا تستقطب أحدا وصار أصحابها يطاردون الفراغ ويعدون الساعات الطوال في انتظار أحد الفضوليين، وحتى قاعات العرض صارت خاوية على عروشها والمطاعم لا يؤمها إلا بعض العابرين من العاصمة من الأوفياء لأماكن عبروها من قبل. المكان الذي يرمز لمرحلة الشاذلية وشعار ‘'من أجل حياة أفضل''، ارتبط في المخيلة الشعبية بمحاولة الشاذلي بن جديد التخلص من إرث بومدين وحب الناس له، فاختار إنشاء معلم يلفت به أنظار الناس عن مقبرة العالية حيث يرقد “الموسطاش”، كما كان يلقبه الشارع الجزائري، فقام بتشييد مقام الشهيد، لكن المهندس الذي أشرف على التخطيط للمعلم “رشيد بن يلس“ سبق أن كشف أن فكرة إنشاء معلم يخلد تضحيات شهداء الثورة كان مطروحا منذ عهد بن بلة، وأعيد إحياؤه في عهد بومدين الذي اختار ولاية باتنة لإنجاز مقبرة ونصب تذكاري يخلد تضحيات الشعب الجزائري، لكن الشاذلي بن جديد هو الذي جسد الموضوع وأعطاه بعده الواقعي، حيث جعله في العاصمة التي تجمع كل جهات الوطن. المعلم خطط له المهندس رشيد بن يلس وأشرف على إنجازه رفقة نحات بولوني والخطاط عبد الحميد اسكندر، فيما أشرفت شركة كندية “لافالين” على تجسيد المعلم الذي يمثل ثلاث نخلات متقابلة تم تصميمه في مدرسة الفنون الجميلة على ارتفاع 92 مترا، ويضم أيضا متحف المجاهد الذي يضم أرشيف حرب التحرير وزعماء الثورة، من بينها سيارة “السيتروايان” التي كان يركبها بومدين. وكان الرئيس الشاذلي بن جديد يعول كثيرا على إعادة تشكيل صورة الجزائر في محيط دولي يشهد متغيرات كثيرة، منها انهيار الدول الاشتراكية الواحدة بعد الأخرى، غير أن انهيار أسعار النفط وتصاعد حدة التيارات المعارضة لنظام الشاذلي بن جديد عجل برحيل الرئيس ورحيل أحلامه وانهيار واحد من رموز الانفتاح في الجزائر، والذي كان يجسد بحق شعار ‘'من أجل حياة أفضل''. وكان يومها الشاذلي قد اعد ترسانة من رجاله للإشراف على رعاية هذا الحلم، منهم والي العاصمة آنذاك شريف رحماني الذي أنشأ جمعيات ‘'شباب 2000'' التي كانت لافتة أو واجهة لظهور برجوازية جديدة، كما أشرف الكولونيل سنوسي على رأس مجمع رياض الفتح ،على تسيير سلسلة من المطاعم والمحلات ودور العرض التي كان يرتادها “نجوم” المجتمع الجديد. بالموازاة مع ذلك كانت تيارات أخرى تعلن عن نفسها بجرأة وتحدى، وقد ساعد انهيار أسعار النفط والأزمات الاجتماعية تلك التيارات على الظهور بقوة أمثال التيارالإسلامي، الذي تزعم احتجاجاته كل من عباسي مدني وأحمد سحنون، وعبد اللطيف سلطاني، الذين اتخذوا من الجامعة المركزية في 12 نوفمبر1982 ساحة لتفجير تلك الاحتجاجات، وأنصار التيار البربري، ومع انفجار أحدث أكتوبر 1988، ودخول البلاد في الأزمة الأمنية التي أتت على الأخضر واليابس مات رياض الفتح تماما وصار جزء من ذاكرة الماضي ورمزا من رموز الشاذلية. ومع عودة الاستقرار تدريجيا إلى البلاد فقد رياض الفتح أو مقام الشهيد ألقه كمعلم ترفيهي وثقافي، ورافقت الألفية الجديدة مساحات أخرى وأماكن أخرى سرقت الأضواء من مقام الشهيد، أمثال سطاوالي و”لمادراك” بعين البنيان وسيدي يحيى، وفوردلو.. لم يعد مقام الشهيد يصنع “بريستيج” ومع ظهور مساحات تجارية وتسوق جديدة وانفتاح السوق على السلع المستوردة من تركيا وأوروبا وآسيا، صارت محلات مقام الشهيد لا تختلف كثيرا عن المحلات الموجودة في أغلب أحياء العاصمة حتى المتواضعة منها، ومن ناحية الأسعار لم يعد مقام الشهيد يصنع “بريستيج” الإنفاق والوجاهة الاجتماعية في ظل وجود محلات راقية تقارب أسعارها، بل وتفوق أسعار رياض الفتح. ولم تفلح حتى الخطوات التي أخذتها الوزيرة تومي في تحويل المركب إلى النشاطات الثقافية وشن حرب على “الملاهي الليلية” الموجودة هناك، من استرجاع جزء من هيبة وحضور رياض الفتح ومقام الشهيد كمعلم من معالم مدينة الجزائر. تراجع رياض الفتح ومقام الشهيد إلى الزوايا الخلفية من المشهد الثقافي والاقتصادي في الجزائر، لكنه مايزال إلى اليوم يحضر في البطاقات السياحية والمطويات التي تروج للجزائر في الخارج، ما يعني أن رياض الفتح حتى وإن خفت شهرته لكنه يبقى جزء من ذاكرة الجزائر المعاصر وإحدى انجازات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، يحمل بصمة الهزات التي عرفتها البلاد في مرحلة حساسة من حياتها السياسية والثقافية.