مقام الشهيد هذا المعلم، أراد له الساسة في الجزائر أن يكون مكان فخر ورمزا تاريخيا لبطولات شعب، حين حرصوا على أن يكون موقعه متجليا لمن يزور الجزائر، برا وبحرا وجوا، ويكون أيضا الواجهة التي تطبع العهد الجديد لجزائر ما بعد الاستقلال. هذا المكان مارس جاذبيته وتأثيره منذ أزيد من ربع قرن على الجزائريين، في جانب نموذجه الأوروبي، المتمثل في واجهات وسطوح محلاته، ونوعية خدماته ليل نهار، لكن الزائر اليوم للمقام يلمح الظلام الذي زحف على مراحل هامة من سطوحه، وعسكر الخوف في غابة الأقواس، وأغلقت نحو خمسين من محاله أبوابها، وانفرد سماسرة غامضون بالمكان. تشير مراجع تاريخية إلى أن هناك أسبابا سياسية وراء إنجاز مقام الشهيد الذي يطلق عليه أيضا رياض الفتح، وهو مركب ثقافي وتجاري. فمن مرتفعات بلدية المدنية مكان تواجده، يلمحه الزائر لمدينة الجزائر، وعلى مرمى حجر منه تتواجد غابة الأقواس وديار المحصول، فيما يطل على حي الحامة ببلوزداد، وعلى حديقة التجارب إلى الشمال الشرقي. فهو الموقع المفتوح على البحر وتيارات هوائه، والشمس والضوء، ما يعد بالتالي ملجأ لا مناص منه للباحثين عن الراحة، وللفارين من جحيم الضجيج، ولكل من يرى أنه تحول إلى كائن مضغوط. فالتفكير كان جار بجد في رئاسة الجمهورية لأجل إيجاد موقع يحتضن هذا المعلم، على أن يكون معلم فخر بارز وشامخ أمام أعين القادمين إلى العاصمة، برا أو بحرا أو جوا، فحيثما يولون وجوههم يجدونه متفرجا عليهم، يمتد ليأخذ شكل مركب ثقافي وتجاري، يحتضن تجارة الرفاه والموضة والتسلية على النمط الغربي، وتكون فيه الصناعات التقليدية ذات صبغة سياحية. اعتراض على المشروع يقول المهندس المعماري والمدني، السويسري جون جاك دولوز، الذي توفي قبل عامين بالجزائر، وهو صديق لوزير البيئة الحالي شريف رحماني، في إحدى كتبه، إن الرئيس الأسبق الشادلي بن جديد كان يريد مكانا لتخليد أرواح الشهداء يكون قريبا من مقبرة العالية التي دفن فيها الرئيس الراحل هواري بومدين، صاحب فكرة إنشاء هذا الصرح. ولكن آراء المهندسين المعماريين والمدنيين والقائمين على التخطيط استقرت على فكرة إنجاز المعلم بمرتفعات المدنية. ولعل ما يفسر اهتمام أصحاب القرار بإنجاز هذا المشروع، هو استعانتهم بالمؤسسة الكندية ''لا فالين''، الذائعة الصيت عالميا في الخبرة والمهارة التكنولوجية، فحين شرعت في تصميم وبناء المشروع النصب التذكاري، والمركز التجاري سنة 1982 استعانت برسامين وخطاطين جزائريين، مثل الرسام بشير يلس، والخطاط اسكندر عبد الحميد والنحات البولوني ماريان كونشيني، وفي غمرة الترتيبات تلك، أبدى طلبة معهد الهندسة المعمارية بالحراش تحفظهم، بل واعتراضهم على المشروع، عندما نظموا معرضا لألواح كاريكاتورية أبرزوا من خلاله استهزاءهم واستخفافهم بالمشروع، وذلك كرد فعل لهم على الغلاف المالي الضخم الذي رصد لإنجازه، حسب ما يرويه مهندسون معماريون. القصبة بدل المدنية.. وتزامن ذلك مع احتجاجات عشرات المواطنين بديار المحصول، المطالبين آنذاك بالحصول على سكنات وتحسين إطارهم المعيشي، بعد الإشاعات التي كانت تتردد من أن منازل ديار المحصول ستلقى المصير الذي لقيته بيوت الصفيح والأكواخ الواقعة على مرمى حجر من غابة الأقواس. وتوالت الأصوات المعارضة لإنجاز النصب التذكاري والمركز التجاري رياض الفتح بالمدنية، حيث يؤكد المهندس المعماري جون جاك دولوز، في إحدى مقالاته عن بناء مقام الشهيد، إن الياس حميدي الذي كان يشغل منصب مدير الصندوق الجزائري لتهيئة المحيط كان يطالب بإنجاز هذا المعلم الرمز بالجهة السفلى لمنطقة القصبة، على اعتبار أن الصناعة التقليدية التي خصص لها طابق كامل بالمركز التجاري، ستصبح نشاطا اعتباطيا إذا لم تؤطرها حياة حضرية، وتصبح مختزلة فقط في البعد التجاري لبعض الأشياء فقط، وهذا المعلم الرمز بإمكانه أن يكون أقوى وأكبر لو أنجز بالقصبة، لأنها كانت مقر السلطة العثمانية، وكانت محل اهتمام السلطات الفرنسية. ويتشكل المشروع من خمس وحدات، بينها النصب التذكاري الذي يبلغ ارتفاعه 92 مترا، فيما تتواجد الشعلة الأبدية تحت النصب التذكاري مباشرة بمحاذاة متحف الجيش. وترمز الأعمدة الثلاثة للمقام إلى الأعمدة الثلاثة التي تعتمد عليها الدولة الجزائرية لمرحلة ما بعد الاستقلال، وهي الفلاحة، الصناعة والثقافة، ولو أنها المجالات الأكثر تأخرا، قياسا بما حققته دول مجاورة، وإقلاعها ما يزال مؤجلا إلى إشعار آخر. أما غابة الأقواس فهيئت على نحو مخصص للتسلية والراحة والترفيه، حيث تتربع بها مطاعم، مسرح في الهواء الطلق، مجموعة مقاه تؤدي مسالكها إلى قرية الحرفيين، في حين تمتد من النصب التذكاري ساحة كبرى تتواصل مع الطريق الذي يلتقي بالربوة، وتحت الساحة يقع المركز التجاري المنقسم بدوره إلى مطاعم وقاعات شاي وسينما. ''المقام'' لمن استطاع إليه سبيلا ويقول بعض العارفين للمكان ممن كانوا يترددون عليه بانتظام بغية السهر والسمر، إن هذا المقصد الجديد هو الوجه الآخر للعاصمة، أنشئ ليكون مرتعا لطبقة النموكلاتيرا في الجزائر وأبنائها القادرين على اقتناء وشراء مختلف ماركات الألبسة العالمية ومختلف الحاجيات، التي لا يجرؤ أغلبية أبناء الشعب على التقرب منها. ومع ذلك، فإن المكان، حسب ما يشير إليه بعض من أصحاب قاعات الشاي هناك، شكّل على مدى أزيد من ربع القرن نقطة استقطاب هامة، ومارس جاذبيته على الجزائريين بدليل الحشود البشرية التي كانت تتوافد عليه، ولاسيما أن الأشياء كانت تسير هناك على نحو هي غاية في التنظيم والرقابة، ولو أن أغلبية هؤلاء المتوافدين عليه كان يقودهم الفضول أكثر من شراء الحاجيات، ويكتفون بالتفرج على واجهات المحلات التي تعرض كل ما يتعلق بالموضة، وأخذ صور عند قدمي المعلم التاريخي يتباهون بها أمام ذويهم وأقاربهم، وفي أحسن الأحوال يقتنون مثلجات مع عشيقاتهم أو أفراد عائلاتهم على إحدى السطوح، فمقام الشهيد كان معلما يميز العاصمة عن باقي المدن الكبرى، وكان يحتل مكانة امتيازية في مخيلة كل الجزائريين، بل هو المقام لمن استطاع إليه سبيلا، ولم يعد لا شارعا ديدوش مراد ولا العربي بن مهيدي بقلب العاصمة ينافسان الإيديولوجية الجديدة في رياض الفتح، التي شدت إليها حتى المثقفين والفنانين وكبار رجال المال، ممن وجدوا مرتعا لهم في قاعات السينما وفي الفضاءات الجديدة المتمثلة في الحانات وقاعات الشاي والملاهي، فيما تحولت غابة الأقواس إلى فضاء رومانسي توفر الظل والراحة والتسلية والرفاهية لمرتاديها، وأصبحت متنفسا للأزواج. ولكن الداخل اليوم إلى رياض الفتح ليس كالخارج منه، فما وقفنا عليه في إحدى ليالي رمضان المنصرم يقود إلى طرح مزيد من الأسئلة عن الحال الذي آلت إليه الأمور هناك، حيث زحف الظلام على أجزاء مهمة من سطوح وساحات رياض الفتح، بدليل أن رياض، وهو صاحب قاعة شاي، يؤكد أن هناك حالة لامبالاة وإهمال من قبل المؤسسة القائمة على تسيير رياض الفتح، حيث لا تزال الإنارة العمومية غائبة في أجزاء هامة من محيط الطوابق المحتضنة للمركز التجاري، فيما يأسف تجار آخرون لحالة الفتور التي باتت تميز الوضع في رياض الفتح، وتنذر بأن من تبقى منهم أصبح مستقبله في حكم المجهول، حيث وقفنا على قرابة 50 محلا ظلت أبوابها مغلقة، تخلى أصحابها عن النشاط لعدم قدرتهم على دفع مستحقات الإيجار والكهرباء، فيما يشير آخرون إلى أنه لا شيء يشجع على البقاء هناك، ولا سيما في غمرة تشديد إجراءات الرقابة على التجار من قبل المؤسسة المسيرة، وهي الإجراءات التي ولدت حالة استياء في صفوف أصحاب قاعات الشاي والمطاعم، ممن يقولون إن الأسعار المعمول بها باتت معتمدة حتى في مطاعم وقاعات شاي الأحياء الشعبية. معالم جديدة جعلت الناس في غنى عن رياض الفتح وعلى العموم، فإن الزائر لمقام الشهيد يلمس حالة حسرة وبؤس على وجوه كامل التجار، ممن يجمعون على أن مقام الشهيد لم يعد وجهة مفضلة للجزائريين، بل ولا حتى بالنسبة للمواطن البسيط الذي كان يسوقه الفضول إلى هناك، بسبب بروز معالم تجارية أخرى جعلتهم في غنى عن مقام الشهيد، كإنشاء المركز التجاري طيبة بباش جراح، ومركزي الربيع بكل من الديار الخمس بالمحمدية، وساحة الشهداء والمركز التجاري بباب الزوار، ومركز الصفا والمروة بسيدي يحي بحيدرة، والأمر نفسه بالنسبة لمحلات بيع البيتزا التي انتشرت كالفطريات في العاصمة وضواحيها. وساهم متغير آخر في انسحاب شرائح اجتماعية من المكان، حيث بعد القرار الذي اتخذته وزارة الثقافة سنة 2008، أغلقت معظم المطاعم/الحانات أبوابها مثل الصومام، الوردة الزرقاء، نوبا، فيما أغلقت مطاعم (الحرفيين) و(المصيدة) أبوابها بغابة الأقواس، وتقلص هامش نشاط أصحاب الحانات، فيما تعرف 12 قاعة شاي وضعية صعبة لتراجع مبيعاتها، في ظل عزوف الزبائن عن التردد عليها، بينما ظل ملهى ''التريونغل'' سيد المكان وفيا لزبائنه من النساء والرجال، ومن ''البفارة'' الذين يتعاقدون كل ليلة مع مطربين يحيون لهم السهرة حتى الصبيحة، تعقد به كل الصفقات الخاصة بالمال واقتسام الأسواق والانفراد ببائعات الهوى في ليل مدينة الجزائر. وموازاة مع ذلك، لم يغير الخوف معسكره بغابة الأقواس، وبساحة وسطوح رياض الفتح، فما يرويه سعيد، صاحب محل لبيع الألبسة، أنه من يوم لآخر نشهد عمليات استعراضية في ترصد طريق المترددين على المقام من السياح، ومن المواطنين العاديين، بالأسلحة البيضاء، حيث كانت إحدى الفرنسيات ضحية اعتداء بغابة الأقواس، حيث انتزع منها هاتفها النقال غصبا عنها، فيما لم يجرؤ أحد الأزواج على فعل أي شيء أمام المعتدين، حين انتزعوا من زوجته هاتفها النقال وهو يتفرج، وذلك بالقرب من الطابق الذي يحمل رقم .121 ''التسيب مس أكبر مرفق رمزي'' الزائر لهذا الطابق ليلا يجده محتلا من قبل أصحاب المخدرات، ومن متناولي المشروبات الكحولية، مع أنه طابق يقع قبالة متحف الجيش، فيما يشكو تجار آخرون من قلة النظافة، بعد أن ساد التسيب والإهمال. هكذا تراجعت حركية مقام الشهيد في كل المجالات، ولم يعد المكان يمارس جاذبيته على الناس، فمن الناحية الثقافية تقلص هامش البث السينمائي وغابت الملتقيات والمحاضرات التي كانت تقام به، وتحول إلى مكان معزول عن الحياة اليومية. ويفسر أستاذ علم الاجتماع، الدكتور محمد الطيبي، فتور جاذبية مقام الشهيد لزواره بالقول ''إن المعلم هو مرتكز من هوية مدينة الجزائر، فبناؤه بمنطق مرجعي تاريخي يحيل إلى ذاكرة الشهادة، وبالتالي فإنه بالضرورة يحتاج إلى تدفقات ترفع من رمزيته دائما، بل يجب أن يطعم هذا المركز بالرموز والثقافة لتجلب إليه المخيلة الجماعية''. ويعتقد أنه من خلال حال هذا المقام نحلل حال الثقافة في البلاد، ويقول، ''إن تسيير الثقافة في البلاد ليس فلكلورا ولا ارتجاليات بيروقراطية، إنها إستراتجية دولة. فالأمر يتضمن تسيبا مس أكبر مرفق رمزي في الثقافة الجزائرية، وهذا يطرح علامات استفهام، طالما أن هناك الملايير أنفقت لإنجازه، والمسؤولون يتحملون مسؤولية تفعيل المرفق،الذي لا تمتلكه كل الدول، وهذا ناجم عن أزمة تسيير خطيرة''، مثلما يضيف.