عندما عرفت أنني من العراق، روت لي منتجة الأفلام الوثائقية لقناة ”آر تي” هذه الحكاية. قالت المراسلة الفرنسية إنها ذهبت في رحلة عمل إلى بغداد بعد دخول الأميركان وسقوط النظام. كان المطلوب منها إعداد تقرير مصور عن نهب المتحف العراقي. وبما أن الوضع سائب ولا مصارف في البلد أو ساحبات تعمل ببطاقات الائتمان، فقد أخذت معها ستين ألف يورو، نقدا، على أمل أن تستأجر مرشدا محليا ومصورا مع كاميرا. في سيارة الأجرة العتيقة التي نقلتها، عبر الطريق الصحراوي، بين عمان وبغداد، طلب منها السائق أن تعطيه ما لديها من عملات لكي يضعها في مكان آمن. كانا قد وصلا إلى منطقة تسرح فيها العصابات وقراصنة الصحراء المسلحون بالرشاشات، لكن المسافرة تظاهرت بأن ما لديها قليل لا يستحق القلق، ثم دست النقود تحت سجادة السيارة ووضعت قدميها فوقها ولفت رأسها بوشاح أسود وسلمت نفسها للقدر. وقد تركها ”الحواسم” تمر من دون تفتيش لأن قامتها الضئيلة وملامحها المتعبة كانت تبعث على الشفقة، مثل أرملة معارض منفي، تعود إلى وطنها بعد طول غياب. اختارت فندقا متوسطا قريبا من ذاك الذي يقيم فيه المراسلون الأجانب. غرفة متواضعة ذات سرير أبيض وطاولة بيضاء مثل غرف المستشفيات. وقد أجالت عينيها في الزوايا باحثة عن مخبأ مناسب للثروة الصغيرة. ومثل كل نساء الأرض، سحبت جارور طاولة الزينة، في حركة آلية، ودست اللفافة في الفسحة الصغيرة وراءه، ثم أعادته إلى موضعه. وبعد ذلك خرجت إلى المدينة لتعاين المتحف وتسأل عن دليل يساعدها في تنفيذ مهمتها. ولما عادت، بعد ساعات، لم تجد السرير ولا الطاولة. لقد استبدلوا بهما أثاثا حديثا من الخشب البني الغامق، تكريما للنزلاء الكثر الذين بدأوا يتوافدون على العاصمة لتغطية زلزالها السياسي. نزلت إلى استعلامات الفندق وهي تكاد تبكي. وبحثت في المخزن المظلم والمرآب الغارق بماء النزيز، ثم في مزاد قريب للأثاث، إلى أن عثرت على ضالتها. لكن الرزمة كانت قد اختفت من وراء الجارور. ولم يبق أمامها سوى استجداء العمال الذين نقلوا الأثاث القديم. لقد دلها أحدهم على سطح الفندق، حيث يقيمون، وهناك وجدت باباً موارباً، ودخلت لتجد عاملة نظافة تحتسي الشاي وهي تتربع، مثل سلطانة، على أريكة عتيقة نفرت أحشاؤها. كانت تستريح من تعب النهار وخدمة الغرف، لكنها رحبت بالنزيلة الأجنبية وقدمت لها الشاي ثم نزلت معها إلى غرفتها. وهناك أزاحت غطاء السرير ورفعت الوسادة فإذا برزمة النقود تنام في سلام. ”الحلال لا يضيع”، هكذا ترجموا لها كلام العاملة. حكايتها ليست استثنائية، سواء في بلداننا أو في بلاد الآخرين، لكنها حركت في نفسي أسئلة محتدمة، والنفس أمارة بالكثير. من كان سيحاسب العاملة لو أنها مدت يدها إلى النقود، في بلد يختلط حابله بنابله، فلا شرطة ولا جيش ولا من يسائل ويحاكم؟ وكيف تحافظ خادمة فقيرة على أمانتها في دولة يسطو كبارها وحواشيهم على الأخضر واليابس وكأن بعضهم قطيع جراد؟ إن بينهم من يحلل المال العام المسروق بأنه تعويضات عن سنوات العذاب والاغتراب. وهناك من يبرر سلب الزوار الأجانب بأنهم استعمرونا ونهبوا خيراتنا. هل أسرق زيدا لأنتقم من عمرو؟ المنتجة الفرنسية أنجزت مهمتها عن نهب آثار المتحف وعادت إلى بلادها وعرضت الفيلم الذي تناقلته شاشات العالم. أما ”حرامي بغداد” فما زال يواصل مهمته، أيضا، بكل نشاط، غير عابئ بكهرمانة التي تقف في ساحة ”الأندلس”، تتوسط تمثالا بديعا نحته محمد غني، لتصب الزيت على رؤوس الأربعين لصا. لقد صاروا أربعمائة، أربعة آلاف يا كهرمانة، فمتى يكتفون؟