وأخيرا تكلم الرجل، بعد صمت طويل، وكم كنا في حاجة إلى أن نسمع صوت رئيس الحكومة الأسبق في هذا الظرف بالذات، وطائرة الجزائر تمر بمطبات هوائية، وبظرف حساس وغير مسبوق في تاريخها. السياق الذي جاءت فيه رسالة مولود حمروش أمس واضح، ويندرج في نفس السياق الذي حرك السيدة لويزة حنون بعد مقابلتها لرئيس الأركان، وهو الخوف على مصير البلاد ومستقبلها وتحذير الجهات الوصية من أي مساس بأمن البلاد. قد يقول البعض إن حمروش تأخر كثيرا ليدلي بدلوه في الحياة السياسية للبلاد، لكن أية حياة سياسية كانت تعيشها الجزائر، غير التطبيل والتهريج. وما كان للأصوات الجادة أن تظهر وسط الغوغاء. نداء حمروش أمس كان واضحا، ومنسجما مع مواقف الرجل التي وعيناها وعشناها عندما كان رجل الإصلاحات، تلك الإصلاحات التي مازلنا نعيش ونسير البلاد على إرثها رغم التشوهات التي لحقت بها. وفي قراءة متأنية لما احتوته الرسالة الهادئة في صياغتها العميقة في معانيها، وجدنا رجلا يحترم المؤسسات الدستورية ويقدر نضال رجالها، ودورها في حماية البلاد وصيانة مكاسبها وعلى رأسها الاستقلال واستعادة الهوية. لكن أهم ما جاء فيها على الإطلاق هو هذه الفقرة التي أنقلها حرفيا ”إن مكونات مجتمعنا لا يمكنها أن تتناغم اليوم مع ممارسة سلطات سيادية بدون سلطات مضادة، كما لا يمكنها أن تتلاءم وممارسة سلطات عمومية أو مهام غير عادية بدون تفويض قانوني وبدون رقابة (...)”. كان لا بد من رجل في حجم حمروش ليقول كلاما كهذا بدون مواربة أو إيحاءات، فمثلما المعارضة ضرورية ولا يمكن أن تكون سلطة قوية، دون معارضة قوية تقف لها بالمرصاد وتجبرها على تصحيح أخطائها وتستمد منها أفكارها، لا يمكن لبلاد أن تسير بالوكالة، فمهام غير عادية في حجم مهام رئيس الجمهورية لا يمكن أن توكل لشخص لم يفوضه الشعب، ولم يختره ولم يمنحه صوته عبر الصندوق، مهما كانت صدقية الانتخابات والتشكيك في شرعيتها. هذا هو إذن رأي رئيس الحكومة الأسبق في الطريقة التي تسير بها البلاد اليوم، وهذا أحد المخاطر التي حذر منها، فدولة المؤسسات التي تحترم دستورها وقوانينها، لا يمكن أن تسمح بهذا، وهذه هي مصيبة الجزائر اليوم. وهذا سبب الوضع المأساوي الذي نعيشه والذي زاد سوءا منذ غياب الرئيس بعد مرضه، وانتقل تسيير البلاد إلى أطراف مجهولة، لم يمنحها الشعب تفويضه ولم يستشر في أمرها. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقد ذكر السيد حمروش بوعد سبق وقطعه الرئيس بوتفليقة وهو يودع الرئيس بومدين - رحمه الله - وعد ببناء دولة عصرية لا تزول بزوال الرجال والحكومات ولا تتأثر بالأزمات. قد لا تكون زالت الدولة رغم المحن، لكن لا شيء يوحي بأن الأزمات الأخيرة قد تمر بردا وسلاما. وهل حقا بنينا الدولة التي لا تزول بزوال الرجال؟! أتفق مع سي مولود لما يتحدث عن الأقليات في إشارة لأزمة غرداية الأخيرة، ففي الجزائر مواطنون جزائريون لهم كامل الحقوق والواجبات. ومهما كانت المخاطر التي عاشتها المنطقة، فإن أزمة غرداية بعيدة كل البعد عن كونها أزمة طائفية أو جهوية، أو أزمة أقليات مضطهدة. ما تعرض له بنو ميزاب يمكن أن يتعرض له كل جزائري في كل مدينة من مدننا. نسيت أن أقول إن ما قاله حمروش بين السطور إن لا عهدة رابعة بمجرد خروجه عن صمته ودليل على خيارات جديدة. ما زلنا ننتظر من السيد حمروش مواقف أكثر وضوحا ولم لا يكون فارسا في مضمار السباق؟