يحتفل العالم “الحر”، هذا العام، بمرور 130 سنة على انتهاء النحات الفرنسي فريديريك بارتولدي من وضع اللمسات النهائية على تمثال الحرية. وبين تلك اللحظة التي شعر فيها الفنان بنشوة الإنجاز وبين حفل إزاحة الستار عن النصب، في خليج نيويورك، حكايات كثيرة وردت في فيلم جميل أنجزته قناة “آرتيه” الأوروبية، استعانت فيه بالعشرات من التوثيقيين ومؤرخي الفنون. يوم إزاحة الستار عن النصب، في خريف 1886، جاء المئات من وجهاء المدينة لحضور المناسبة الفريدة. لكن الشرطة منعت السود والنساء من دخول موقع الاحتفال. كيف لا تحضر النيويوركيات مراسم تكريم امرأة من بنات جنسهن بجعلها رمزا للحرية؟! بل كيف يحرم السود من تدشين تمثال أهدته فرنسا إلى الولاياتالمتحدة بمناسبة مئوية الثورة الأميركية، تلك التي أسفرت عن وثيقة استقلال جاء فيها أن جميع البشر خلقوا متساوين، وأنهم وهبوا من خالقهم حقوقا منها الحياة والحرية؟! إنها الجملة الشهيرة التي ألهمت الرئيس إبراهام لينكولن، الرجل الذي دفع حياته ثمنا لإلغاء العبودية. بحضور الرئيس الأميركي غروفر كليفلاند، وقف عمدة نيويورك ويليام إيفارتز يلقي خطابا بالمناسبة. وكان هناك صبي أوقفوه قرب المنصة لكي يعطي الإشارة، حال انتهاء الخطاب، لعامل يقبع خلف التمثال، ليجذب الحبل مزيحا الستار عنه. لكن الطفل أخطأ وأعطى الإشارة قبل الوقت فهبط الستار وانكشفت “الحرية” وصفّق الحضور وقذفوا قبعاتهم في الهواء قبل أن ينهي العمدة كلمته. ورغم وجود عدد من الصحافيين في الحفل، فلم يخطر ببال أي منهم التقاط صورة للحدث الذي ظل موصوفا بالكلمات، لا بالزجاجة المفضضة العاكسة.. هل كان سهوا أم موقفا متعمدا؟ الحكاية ليست جديدة، لكن من المفيد تكرارها لما فيها من جانب يخص العرب. ولولا مفارقات التاريخ وحسابات وزراء الخزائن، كان يمكن لمشهد الاحتفال أن يجري في مدينة السويس المصرية، لا في نيويورك. فقد تمنى نحات “الحرية” أن يرى تمثاله واقفا عند مدخل القناة التي حصلت فرنسا على امتياز شقها واستثمارها لمدة 99 سنة. وهو قد ذهب إلى مصر وتفرج على آثارها واستلهم فكرة ظلت تلح عليه، ثم عاد إلى باريس وانتهز فرصة حضور الخديو إسماعيل لحضور المعرض الكوني الذي كان يقام دوريا في العاصمة الفرنسية، فسعى إلى لقائه بكل الوسائل. ولما تحقق اللقاء، عرض بارتولدي على الخديو نموذجا مصغرا لتمثال يمثل فلاحة مصرية، يمكن أن يأخذ مكانه على ضفة القناة الجديدة مثل فنار بين أفريقيا والقارة الآسيوية. لكن الحاكم المصري رفض الفكرة، وقيل إن الخزانة كانت مفلسة وعاجزة عن تمويل المشروع. وقيل أيضا إن الرفض جاء لأن أذواق الطبقة الحاكمة، آنذاك، كانت مأخوذة بفنون عصر النهضة في أوروبا، وبالتالي لم تتحمس لفلاحة بالطرحة البلدي. لم يصب النحات باليأس بل قام بتحوير التمثال ليضع على رأس المرأة تاجا بدل الطرحة، وفي كفها مشعلا مرفوعا لإضاءة طريق الساعين إلى الحرية. إنها الحرية التي استغرقت مسيرتها بين باريس ونيويورك عدة سنوات وكادت تتعثر، قبل الوصول إلى قاعدتها. فقد تكفلت الدولة الفرنسية بنفقات التمثال على أن تتولى أميركا صنع تلك القاعدة المرتفعة التي تجعل التمثال منظورا من بعيد. لكن أثرياء نيويورك سخروا من الفكرة وقالوا: “هل يريد هؤلاء الفرنسيون الحمقى إهداءنا هدية ندفع ثمنها من جيوبنا؟!”. ظلت “الحرية” راقدة في باريس، عدة سنوات، تنتظر موعد الباخرة التي ستنقلها إلى العالم الجديد. وفي النهاية، تمكن الصحافي جوزف بوليتزر، صاحب جريدة “نيويورك وورلد”، من تحريك القضية حين نشر مقالات تدعو المواطنين العاديين، لا أصحاب الثروات، للتبرع ولو بسنت واحد، للمشروع. وزيادة في الترغيب راحت الجريدة تنشر اسم كل مساهم. وبهذا نالت نيويورك تمثالها الأشهر الذي طار من يد السويس. ولعل فخر القناة كان في الأباطرة والملوك الذين حضروا افتتاحها، وبينهم ملكات وإمبراطورات يشار لهن بالبَنان، وليس مثل حفل افتتاح نصب الحرية الذي كان رجاليا مثل صالات السينما عندنا، حاليا، أو مثل سرادقات العزاء.