كانت عظة الواعظ تطهيرًا للنفوس وتعميراً للصدور، وكانت صرخة مجلجلة مزلزلة تصادف الأذان المفتوحة والقلوب المشروحة. وكان المسلم يأتي المسجد مثلاً ليسمع العظة وقد أعد نفسه لحساب عسير عما سلف منه، ولتلقي أوامر دينية جديدة توجه إليه، فهو يسمع إذ يسمع بجسد راجف واجف، خشية العقاب أو العتاب، وبعزم جديد وحزم جليد، رغبة منه في مواصلة الاستجابة والتنفيذ. ومن هنا كان قليل الكلام يجدي، ويسير العظة يفيد، فكثرت الأعمال يومئذ وقلت الأقوال! أما اليوم فقد صارت العظات لوناً من التسلية ونوعاً من قطع الفراغ، يتباهى بها الناطق، ويتنادر السامع، فيعجب بفصاحة هذا، وينقد أسلوب ذلك، ويرضى عن تلك العظة لأنها وافقت هواه، ويغضب من تلك لأنها خالفت مشتهاه، وهكذا بَعُد عن الجادة كل من القائل والسامع، إلا قليلا ممن رحم الله، وما أشبه الأمر بما صارت إليه تلاوة القرآن في مجالسنا ومحافلنا من الانحراف. فلقد كان القرآن يتلى فترى الناس كأنما على رؤوسهم الطير من الهيبة والجلال، والاستغراق في التدبر والتفكر، تراهم قد خشعت قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق:{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}، لذلك أثمر فيهم القرآن المجيد ثمرته.. أما اليوم فالجهل سائد والإعجاب بصوت القارئ زائد، والقارئ أشبه بالتاجر، يحاول بما خفي أو بدا من الوسائل أن يزداد من حوله الأنصار والمعجبون. ولقد صارت صلاة الجمعة وخطبتها كحفلة أسبوعية تقليدية، يحظرها البعض لحب الاستطلاع والمقارنة بين الخطباء، والحكم لأحدهم بالسبق على الآخرين، والبعض لتسقط الزلات أو عد الهفوات، أو غير ذلك من خسيس النوايا وتوافه الأغراض التي لا تليق بصالحي الرجال، فأين ما كان للجمعة في تاريخ الإسلام من عظمة وجلال؟ وأين ما كان من صوت الخطيب في رحابتها من انطلاق وحرية بلا رهبة أو رغبة؟ وأين ما كانت تعود به على المسلمين من نقد العيوب وتطهير القلوب ومحو الذنوب والاستعداد للغيوب؟ وأين ما كان يتحقق فيها من تأليف للأرواح بعد تداني الأشباح؟ وتجديد العزائم والتواصي بالمكارم؟ وأين ما كان في وصاياها من صيحات حق وكلمات صدق ودعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر؟ وأين الذين يسعون إليها خفافاً مبكرين، وقد تركوا بيعهم ولهوهم، وتجملوا في مظهرهم بعد أن تطهروا في مخبرهم، وجاءوا ليستمعوا القول من هاديهم فيتبعوا أحسنه؟. لكأنهم والله - أخي القارئ - قد رحلوا إلى غير مآب!.. والعجيب الغريب المبكي في أمر أكثر الناس اليوم أنهم لا يعجبهم العجب، ولا يرضون عن الواعظ مهما بذل.. وتراهم يسلقونه على الدوام بألسنة حداد،وقد يلقَونه مُرائين أو مُخادعين بكلمات المديح والإطراء، فإذا انصرفوا عنه أو انصرف عنهم صرف الشيطان ألسنتهم القذرة إلى الفحش والافتراء. فإذا غضب الواعظ للمحرمات المنتهكة وصف بالمتطرف الذي يستحق الجزاء والعقاب! وإن تلطف في إرشاد الآثمين قالوا ياله من جبان يخاف أهل البطش والسلطان!! وإن دعانا لأخذ نصيبا من الحياة الدنيا قلنا أنه متساهل يريد أن يصرف الناس عن العبادة إلى متاع الحياة الدنيا!!.. ماذا نريد من الواعظ أخي القارئ؟ هل نريده أن يكون عصاً في أيدينا نلعب به كيفما نشاء.. تبعاً لأهوائنا فإن أعجبنا لحنه طربنا واستزدنا منه، وإن لم يعجبنا قلنا له إيت بلحن غير هذا أو بدله؟! أم نريده أن يكون بوقاً يردد كل أسبوع متونا دينية أصبحت مع طول تكرارها إضافة إلى قطعها عن دنيا التطبيق والتنفيذ كأنها آثار؟!. كيف نريد من الواعظ أن يؤدي واجبه وكل واحد منا يريده أن يخضعه لمصالحه؟! لذا ينبغي علينا أن نعِّد قراءة صحيحة للموضوع تمكن الواعظ من أداء مهمته على أكمل وجه.. وهي مسؤولية كبيرة ملقاة على كل فرد من أبناء هذا الوطن الحبيب، وبالدرجة الأولى الهيئات الرسمية المتخصصة في هذا الشأن.. فما هي الآليات التي يجب اتباعها في إعداد وعاظ ناجحين؟ وعاظٌ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعاظٌ يخدمون دينهم بطريقة صحيحة بعيدة عن التنطع والتميع في آن واحد، وعاظٌ يعملون في إطار مرجعية وأعراف وطن. وعاظٌ يعون أهداف ومصالح أوطانهم بالإضافة إلى تقديرهم حجم المخاطر التي تتهدده في ظل الضغوطات الدولية المتشعبة. ما هي الضوابط التي تحدد الحريات في هذا المجال؟! وما هي الآليات التي يجب اتباعها للرفع من مستوى الوعظ المسجدي؟ كل هذه التساؤلات والإشكالات تحتاج إلى تخطيط دقيق ومراجعة جدية من طرف الهيئات المتخصصة مواكبة للتغيرات المحلية والدولية. إن قليل الكلام يغني عن كثيره، كما أن الحلال بين والحرام بين، وما كثر كلام أمة وقل عملها إلا ذلت وهانت.. قال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين}.