قبل سنوات عدة كتبت، فيمن كتبوا، أن تاريخ العرب في صقلية لم يكتب حقا بعد. ودعوت – فيمن دعوا – إلى إقامة مركز للدراسات العربية التاريخية في جامعتها، يديره إيطاليون، ما دام أساتذتها العرب مضربين. وأنشأ القذافي كرسيا في الجامعة، ربما كانت له فيها أغراض كبعض أغراضه الأخرى. دائما كان الأغراب من اهتموا بدرس تراث الأعراب. الأميركي جون كيهي أصدر حديثا ”البحث عن صقلية.. رحلة ثقافية” فيه فصلان عن صقلية العربية. يجوب عاصمتها، باليرمو، ويقارن جهاتها الحالية بما كانت عليه في العصر العربي. ومرجعه الوحيد في المقارنة كتاب ابن حوقل ”صورة الأرض”، وهو أيضا وصل إلينا لأنه طبع في نيويورك، وإلا لما وجده الناشرون العرب، الذين لم يضيفوا إلى طبعتي نيويورك بحثا أو درسا أو تحقيقا. وعلى ما أعرف – وما أجهله أكثر – أن الدراسة الأوفى للأثر الجغرافي الذي تركه ابن حوقل، ظهرت في مجلة ”عالم أرامكو”. ولست أعرف مرجعا دوريا أكثر عناية بالتراث العربي والإسلامي منها. لكن العرب لا يقرأون، والذين يقرأون يعتقدون أن الشركات النفطية تبحث في التراث لأسباب بترولية لا لقضايا عربية. وكنت قد اقترحت على الراحل ماجد العاص، أحد كبار إداريي ”أرامكو”، أن تُجمع الدراسات التراثية التي صدرت في النسخة العربية من ”عالم أرامكو”، في مجلدات تحتفظ بها الجامعات والمؤسسات ودور العلم، لأنه ليس لدينا شيء عربي مواز. حبَّذ يومها الاقتراح، لكنه كعادته في اقتصاد الكلام لم يزد على ذلك. وأعربت يومها عن استعدادي للمساهمة في مشروع التعريب، قدر الطاقة والإمكان. ما زلت أتمنى أن تقوم ”أرامكو” بتنفيذ المشروع. ثمة ثروة أخرى في متناولها، غير المعادن والنفط، هي هذه الدراسات التي أوكلت جلّها إلى باحثين وعلماء وصحافيين غربيين. عدت إلى نص ابن حوقل (مكتبة الإسكندرية) فوجدت أنه لا مثيل للرجل اليوم، في عصر الطائرات والبواخر. وأحيانا لا مثيل لدقته. وقد كان مجتهدا في أبحاثه حتى اتهمه العرب بالتجسس للمماليك. وهي تهمة تطلق عندنا على أهل العلم قديما وحديثا. وأطلقت بصورة خاصة على بعض أهم أساتذة الجامعة الأميركية في بيروت، مثل فيليب حتي وحنا بطاطو، لأنهم اعتمدوا الوقائع العلمية وحدها في دراسة التاريخ. غير أن هؤلاء تركوا لنا، مثل ابن حوقل والجغرافيين العرب، أهم المراجع التي تعني أهل العلم، من دون أن تعني - في أي وجه من الوجوه أو في أي عصر من العصور - المتنعمين بالجهالة. يشير جون كيهي إلى وصف ابن حوقل لأسواق باليرمو (بارم) دون أن يعددها. إليك بعضها: سوق الزيّاتين والدقّاقين والصيارفة والصيادنة والحدّادين والصياقلة، وأسواق القمح، والطرازين، والسماكين، والابزاريين، وطائفة من القصابين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة، والريحانيين، والجرَّارين، والخبازين، والجدالين، وطائفة من العطارين، والجزارين، والأساكفة، والدباغين، والنجارين، والغضائريين، والخشابين، وسواهم.