لا يزال الكثير من المحللين والكتاب يحاولون تفسير التطور المفاجئ الذي حصل في العلاقات السياسية بين كل من إيران والولايات المتحدة, وكيف أن حالة ”الرضا” بينهما حصلت بعد أن كانت الأولى إحدى دول محور الشر والثانية كانت تعرف بأنها الشيطان الأعظم. هناك فريق محسوب على الديمقراطيين في الإدارة الأميركية ممن يعتقدون وبقناعة تامة أن إيران هي الحليف ”المناسب” لأميركا في المنطقة, وذلك لوجود علاقة تراثية واضحة في هيكلها السياسي, فهناك ”مرشد” واحد له الرأي الأول والأخير لا يناقش فيه, ومتى اقتنع بالمسألة الكل يطبق هذه القناعة. وإيران تطبق هذا المفهوم بشكل عملي في مناطق نفوذها في لبنان وسوريا والعراق بامتياز عبر تنظيمات وحكومات تتبع سياستها بالمطلق. منذ فترة صدر كتاب مهم في أميركا ”يروج” لتلك الفكرة, كتبه ستيفن كينزر أحد أهم الأصوات المؤيدة لإسرائيل في الأوساط الأكاديمية والفكرية, عنوان الكتاب هو ”ريبست” أو بترجمة عربية ”إعادة التصنيف”, وهو يرى أن إيران ستمثل الشريك الأكثر اعتمادية في المنطقة ويبرر الأسباب بشكل دقيق. أميركا لديها عشق كبير في مناصرة الفريق الأضعف, أو الUnderdog كما يطلق عليه بالعامية الأميركية, وهذا العشق مستمد من القصة التوراتية الموجودة لديهم بإسهاب عن انتصار النبي داود على جالوت الذي كان أقوى منه, وبيعت للإدارة الأميركية فكرة أن إيران ”مظلومة” وأنها دولة ذات حضارة عريقة تقع وسط أغلبية ”همجية” من العرب منذ القديم من الأزمان. وتطورت هذه الفكرة مع التجهيز لفكرة غزو العراق إبان إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن, الذي كان فريقه العقائدي من المحافظين الجدد يحضر جيدا لها ويعتبر العراق هو المدخل الجديد لطروحاته. وكان عراب هذا المشروع في داخل الإدارة الأميركية مساعد وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز الذي أحاط نفسه بمجموعة من المتعاطفين مع الدور الإيراني الجديد هذا, من أمثال أحمد الجلبي وفؤاد عجمي وولي نصر, وهو أميركي من أصول إيرانية كتب كتابا لافتا عن صعود ”الشيعة” يركز فيه على الدور المتنامي والمؤثر لإيران في المنطقة, والكتاب كان مليئا بعبارات الإشادة والإعجاب بالرؤية الإيرانية. وركزت وسائل الإعلام الأميركية وقتها على أن الرئيس الأميركي جورج بوش قرأ الكتاب وكان ينصح غيره بقراءته, وهو الرجل الذي عرف بأنه لا يتهم بقراءة الكتب أساسا. وزاد التواصل ”الخفي” بين الإدارة الأميركية مع إيران بالتنسيق بينهما في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين, وأصبح هناك تعاون وتنسيق واضح المعالم وعلى أعلى مستوى ولا خلاف بينهما على أي من المسائل. وبدأت رحلات سرية متواصلة من قبل زلماي خليل زاد السفير الأميركي الأسبق لدى أفغانستان, وهو الذي يتحدث الفارسية بطلاقة, إلى إيران حيث قابل خلالها أكثر من مسؤول إيراني, وذلك قبل اللقاءات التي كانت تتم بين الدبلوماسية الإيرانية والأميركية برعاية عمان في العاصمة مسقط. وهذا التطور بدأ في الازدياد أكثر مع وجود قناعات متزايدة داخل إدارة أوباما اليوم بأن التعاون مع طرف ”أقلية” و”مظلومة” سيكون محفزا أكبر لها للتعاون والانصياع لرغبتنا بشكل أهم وهو الذي يتضح مع مرور الوقت. اليوم يعتبر مسجد المركز الإسلامي الإيراني في ديربورن ميشيغان أكبر مسجد بالولايات المتحدة, وهو ممول من جمعيات خيرية محسوبة على المرجعيات في قم. واليوم كل الأفلام السينمائية التي لها علاقة بأي مادة أو موضوع له علاقة بالإسلام وتنتج في هوليوود يكون المرجع المتصرف على المادة التي تخص الإسلام من المراكز والمساجد المحسوبة على الجمعيات الخيرية الدينية الموجودة في قم بإيران. الغزل الأميركي الإيراني له أبعاد من المهم أن تفهم في الإطار الأكبر ويتم استيعابها تماما حتى ندرك سر التغير في الموقف الحاصل اليوم. فإيران تتعامل مع أميركا بعقلية تاجر البازار الذي لديه استعداد عظيم للتداول والمفاهمة والتضحية بالقليل من أجل الحصول على الكثير. في السوق السياسية العظمى دوما تعقد أكبر الصفقات ونحن نعيش تبعاتها.