في المسلسل التركي المدبلج الذي يمسك بتلابيب المشاهدين من المحيط إلى الخليج، يلف السلطان سليمان لثاما على وجهه وينزل إلى الأسواق لكي يكشف التجار المتلاعبين بقوت الرعية، دون أن يتعرف عليه الناس. ولعلها خصلة متوارثة من زمن الخلافة الأول، توسعت وانتشرت حتى وصلت إلى البلاد الإسكندنافية الشهيرة بانضباطها ومساواتها وحريتها. وقد شاهدنا رئيس وزراء النرويج، في وقت سابق، يتنكر في هيئة سائق سيارة أجرة ويتجول في شوارع العاصمة أوسلو لمعرفة آراء المواطنين في سياسة الحكومة. قبل أيام، قرأنا أن وزيرة الصحة في العراق، الدكتورة عديلة حمود حسين، جربت هذه الوصفة وكانت النتيجة سيلا من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي والكثير من علامات الاستفهام. لقد ارتدت الوزيرة نقابا وتوجهت إلى مستشفى في بغداد. ولما منعها موظف الاستعلامات من الدخول عرضت عليه رشوة فتراجع عن موقفه وسمح لها بالمرور. إنه حل روتيني يلجأ إليه الآلاف من المراجعين العاديين، يوميا، في مختلف مؤسسات الدولة. أما الوزيرة فقد أخذت معها مصورا لتوثيق الواقعة، وهي قد توجهت مباشرة إلى مدير المستشفى، وكشفت عن وجهها، ومارست صلاحيتها في معاقبة الإدارة وإحالة المرتشين إلى التحقيق. هذا ما جاء في الخبر المنشور والمعزز بالصور. لكن الموقع الرسمي للوزارة الذي يتابع النشاط الدؤوب للوزيرة، لم يتضمن إشارة إلى المداهمة. أما الصور فلا تكشف هوية صاحبتها لأنها تخفي وجهها. أفترض أن الخبر صحيح لأن المتحدث الإعلامي لوزارة الصحة أيده ولم ينفه. وهو تصرف شجاع من وزيرة في الحكومة. وحبذا لو انتقب بقية الوزراء وتجولوا في المرافق والإدارات العامة لكشف المرتشين ومعاقبة المسيئين. لكن كم ألف ألف نقاب يحتاج البلد لمداهمة لصوصه بالجرم المشهود وتنظيفه من الصدأ؟ وكم عقدا تستغرق عملية التنظيف؟ وهل من العدل، يا دكتورة عديلة، البدء بالبواب والصعود إلى فوق، أم العكس؟ قبل 30 سنة، كانت الرشوة تودي بصاحبها إلى حبل المشنقة في العراق. إن أحكام الإعدام هواية من الهوايات في بلد ألف ويلة وويلة. ثم قامت الحروب وتدهورت الأوضاع وانهارت العملة المحلية وصار المرتب الشهري للمعلم دولارين. نطقت المدافع وسكت البشر وبدأ قانون الرشى يفرض سيطرته على كل مرافق الدولة، من الحصول على ورقة الشهادة الابتدائية إلى تسهيل الهرب من البلد عبر المنافذ البرية. وكانت حرفة التزوير تجري على أقدام وسيقان لا عد لها ولا حصر، وتدور فيها ملايين الدولارات، لا الدنانير. والكل يعرف ويتواطأ ويغمض عينيه ويقبض نصيبه. ويوم كان الأطباء والمهندسون وذوو الاختصاص النادر ممنوعين من السفر لحاجة البلد لهم، تسرب المئات منهم إلى الخارج من خلال جواز سفر مزور يحمل في خانة الوظيفة مهنة تاجر أو كاسب. فإذا حدث وأن أصيب أحد المسافرين بنوبة قلبية في معبر طريبيل، على الحدود مع الأردن، رفع ضابط الجوازات صوته مستنجدا: “يا أهل المروّة، هل بين الموجودين تاجر أو كاسب لإسعاف هذا المسكين؟”. قبل تلك المرحلة، كان صدام حسين يدور على المدارس ويدخل على الناس في بيوتهم ويزور المستشفيات لضبط الأطباء المتأخرين على موعد الدوام، ولم يكن في حاجة لأن يتنكر أو يموّه شخصيته فالسطوة تستعصي على أثقل نقاب. وروت لي طبيبة كانت تعمل في مستشفى تكريت أنه حضر إلى مكان عملها في ساعة مبكرة من الصباح ودخل الردهات وسأل المرضى عن أحوالهم. وكان بينهم من أثنى، بشكل خاص، على الدكتورة الشابة فقرر الرئيس أن يقدم لها مكافأة، أو “مَكْرُمَة” حسب التعبير الذي كان متداولا، لكنها بدل أن تفرح فقد ارتبكت وخافت لأنها كانت خارجة من سجن أبي غريب الذي أمضت فيه عدة سنوات لأنها بهائية. بلد يهجره أطباؤه وطبيباته بعد استهدافهم بالخطف والابتزاز والاغتيال ليعمّروا مستشفيات الخليج وبريطانيا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة. ومن نجا منهم من الموت وقع في براثن الفصل العشائري. فأن يلفظ المريض أنفاسه في صالة العمليات، قضاء وقدرا، يعني أن الجراح مجرم ولا بد من أن يدفع ديّة المتوفى “القتيل”. بأي نقاب تداوي وزيرة الصحة هذا الوباء؟