تحولت الرياض في الأيام الماضية عاصمة للعالم، الذي تقاطر قادته للتعزية في الراحل الكبير الملك عبد الله، لكن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ومعاونيه والشعب السعودي، وقفوا على ما يمثّل عمليا في الواقع توافدا سياسيا واستفتاء عالميا على أهمية المملكة ومكانتها الدولية ودورها الفاعل ومرجعيتها الحاسمة. من أميركا أوباما إلى قرغيزستان آلان عبديلداف، مرورا بروسيا بوتين وميدفيديف، وصين يانغ جيه تشي، وبريطانيا تشارلز وكاميرون، وفرنسا هولاند، كلهم ذهبوا إلى الرياض ولم يتغيّب أحد في العالم تقريبا عن هذه المناسبة، للتعزية ومصافحة الأيدي التي تمسك بمقاليد الحكم، في بلد له دور محوري على المستويات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية، وخصوصا في هذه المرحلة الدقيقة. قبل أن يهبط الرئيس باراك أوباما في الرياض قاطعا زيارته إلى الهند في لفتة غير مسبوقة، كان العلم البريطاني قد هبط عن ساريته منكسا فوق قصر باكنغهام في لفتة غير مسبوقة أيضا، ومن الهند أعلن أوباما أن الشراكة اللصيقة والقوية بين أميركا والسعودية، هي جزء من إرث الملك عبد الله الذي سيستمر مع الملك سلمان، ثم جاءت الترجمة العملية لهذا الكلام يوم الثلاثاء، عندما وصل أوباما على رأس وفد من 29 شخصية للتعزية تلتها أول قمة مع خادم الحرمين الشريفين. لم تسمح ستائر الحزن وقواعد التعزية بصدور بيان مشترك عن القمة، لكن البيان الذي صدر عن الديوان الملكي أشار إلى تقديم التعزية الحارة وإلى ”أن زيارة أوباما الرسمية تعتبر استمرارا لاجتماعات القمة بين قادة البلدين منذ اجتماع الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1945 الذي تأسست خلاله العلاقة التاريخية والاستراتيجية القائمة بين البلدين الصديقين”. التصريحات والتحليلات الأميركية التي سبقت الزيارة أوحت بأن إدارة أوباما تريد استمرار العلاقات العميقة والراسخة مع السعودية، وبدا واضحا أكثر أن أوباما حريص على ترميم العلاقات بين البلدين، بعدما تلبّدت في سمائها غيوم من العتب والمرارة نتيجة السياسات الخارجية الأميركية في الأعوام الأخيرة، وهي سياسات تتنافى كليا مع القواعد والأصول وتتعارض مع المبادئ التي يفترض أنها تحكم مواقف البلدين الحليفين من القضايا الحساسة التي تهمهما. الاستمرارية في علاقات تعاون وثيق وعميق على هذا المستوى لا يجوز أن تكون من طرف واحد، فمن الواضح أن السعودية كانت ثابتة في كل مندرجات التعاون بين البلدين وفي الملفات التي تهمهما، لكن ليس سرا أن أوباما ابتعد كثيرا عن هذه القواعد وخصوصا في ملفات حسّاسة ومهمة. فمن الواضح أنه طبّق ويطبّق سياسة متهافتة على إيران والاتفاق النووي معها بغض النظر عن التنسيق مع حلفائه الخليجيين وفي مقدمهم السعودية، وعن تدخلاتها السلبية على المستويين الخليجي والعربي، ثم إنه تعامى عن الأزمة السورية بما ولّد ”داعش” وغيره من التنظيمات الإرهابية، وقد انحاز في البداية إلى ”الإخوان المسلمين” في مصر في سياق رهانه على تسليم الإسلام السياسي المنطقة كلها، وليس خافيا أنه نسي كل وعوده الزهرية بحل أزمة المنطقة على أساس رؤية الدولتين. وهكذا عندما يقرر أوباما قطع زيارته إلى الهند ليذهب معزيا إلى السعودية، ويصطحب معه وفدا له رمزيته ومدلولاته السياسية الواضحة، وعندما تسبق وصوله تصريحات لافتة تغاير سياساته، يصبح من المفهوم أن أوباما يريد أن يتصرف بطريقة توحي بحرصه على ترميم العلاقات مع الرياض، وخصوصا أن خادم الحرمين الشريفين أعلن منذ اللحظة الأولى أنه متمسك باستمرارية السياسة التي انتهجها الملك عبد الله والتي كان شريكا في كل أبجديتها. لم يكن المسؤولون في السعودية في حاجة إلى صدور بيان أميركي قبل ساعة من وصول أوباما إلى الرياض يقول: ”إن الوفد الكبير والمتنوّع دليل على متانة العلاقات الثنائية وأهميتها” ولا إلى كلام المسؤول الأميركي الذي تحدّث عن ”حتمية التوافق على التحديات المشتركة التي تتطلب معالجتها كل التعاون والتنسيق”، فقد كان كافيا معرفة أعضاء الوفد الذي اصطحبه أوباما وطبيعة مواقفهم السياسية المعلنة، لكي يتأكد فعلا أن البيت الأبيض يحرص على استمرارية العلاقات مع الحليف السعودي، وأن القمة مع خادم الحرمين الشريفين الجديد هي مقدمة مدروسة أميركيا بهدف ترميم العلاقات وإزالة الغيوم الداكنة من فضائها. تشكيلة الوفد الأميركي عكست الأهمية التي يضعها أوباما على ترسيخ العلاقات مع الملك سلمان، فقد ضمّت شخصيات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الرياض وبعضها مثل السيناتور جون ماكين ووزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر يوجّه انتقادات حادة إلى سياسة أوباما حيال إيرانوسوريا تحديدا وحل أزمة الشرق الأوسط، ونزول هؤلاء معه بعد تنويهه بهم يعني أنه يتعمد إظهار الرغبة في العودة إلى قواعد وأصول التعاون مع السعودية. مع وجود ماكين وبيكر وكوندوليزا رايس وبرنت سكاوكروفت وساندي بيرغر وستيفن هادلي وفرانسيس فاركوس تاونسند الذين أدار بعضهم السياسة أيام جورج دبليو بوش، أراد أوباما الإيحاء بأنه حريص على الاستمرارية التي يريد أن يحافظ عليها خادم الحرمين الشريفين، فهو يصطحب الماضي متبنيا ولهذا مغزاه العميق. بعد تهافت أوباما على الاتصال الهاتفي مع حسن روحاني وبعد الكشف عن المحادثات السرّية بين أميركا وإيران في عمان علّق ماكين بالقول: ”لماذا نستبدل الحلفاء الخليجيين الموثوقين بحلفاء إيرانيين غير موثوقين”، ومساء الثلاثاء ومع هبوطه مع أوباما في الرياض وصل تصريحه من الطائرة ”أن السعودية تبدو كحصن منيع أمام مساعي إيران لبسط نفوذها في سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين”، فهل كان ماكين ليقول مثل هذا الكلام كعضو يرافق أوباما ومن داخل طائرته لو كان أوباما فعلا يرفض أو يعارض؟ كلام جيمس بيكر من الطائرة أيضا بدا بالنسبة إلى المراقبين كأنه نصيحة مباشرة إن لم نقل انتقادا ضمنيا لسياسات أوباما عندما قال: ”أعتقد أنه من المهم أن نظهر للسعوديين الأهمية التي نوليها لهم”، بمعنى أن إيلاء هذه الأهمية اقتضى أن يصطحب أوباما معه من يجيد الإضاءة على هذه الأهمية وإبرازها، ولكي تكتمل حلقة النصيحة تعمّد بيكر أن يضيف ”أنها مرحلة حساسة في شكل استثنائي في الشرق الأوسط ويبدو أن كل شيء ينهار وفي الوقت عينه تصبح المملكة العربية السعودية واحة استقرار”! نعم كانت الرياض عاصمة العالم وشهدت قمة دولية متواصلة توّجتها زيارة أوباما التصحيحية، وفي النهاية ليس الأمر مستغربا... هذه هي السعودية.