الحروب والصراعات في المنطقة العربية لا تسمح بالتوقف عند حدث كبير، بحجم لقاء باراك أوباما مع قادة وزعماء الخليج في واشنطن. فسرعان ما ينتقل التركيز إلى حدث مفاجئ، في هذه الدوامة المتسارعة. من هنا، أجد من الواجب تقديم إيضاحات وتفاسير لنتائج اللقاء الذي لم يكن نجاحا كله. أو فشلا كله. خرج اللقاء بتفاصيل عن ”استراتيجية جديدة” من المقرر أن تحكم العلاقة الثنائية. لكنها لا ترقى إلى مستوى عقد معاهدات أمنية ودفاعية، كما كان يأمل قادة الخليج. التصريحات. والتعليقات. والتكهنات، كثيرة ومتضاربة عن هذه الاستراتيجية الجديدة. في الاختصار الحاسم، أعتمد شخصيا البيان المشترك الصادر عن اللقاء في التفسير والإيضاح. فقد قدم الأميركيون شرحا مسهبا فيه للعلاقة الثنائية الجديدة. فهي تهدف إلى ”بناء أوثق” في مختلف المجالات، بما فيها المجالان الدفاعي والأمني. ووضع حلول جماعية للقضايا الإقليمية. تكرر أميركا أوباما الالتزام الصريح ”باستخدام كافة عناصر القوة، وعلى وجه السرعة، لحماية المصالح المشتركة في الخليج”. ولردع أي عدوان خارجي ضد ”حلفائها وشركائها” العرب. كما فعلت في حرب تحرير الكويت (1991). وهي لا تقبل التشكيك بهذا الالتزام. لكنها تلزم النظام الخليجي ”بالتشاور” معها، عند التخطيط لعمل عسكري خارج الحدود (اليمن مثلا) خاصة عند طلب مساعدة من أميركا. بخصوص إيران، فالعمل سيكون مشتركا للتصدي ”لأي أنشطة إيرانية تزعزع الاستقرار في المنطقة”. وتشترط أميركا على إيران أن تتعاون، وفقا لمبادئ حسن الجوار. وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سلامة الأراضي، بما يتفق مع القانون الدولي (الذي أقامه النظام الرأسمالي الغربي منذ ثلاثة قرون). ويتعين على إيران أن تتخذ خطوات (فعلية وعملية) لبناء الثقة. وحل النزاعات مع الجيران بالطرق السلمية. في المقابل، قبل الخليجيون بالتفسير الأميركي لمشروع الاتفاق النووي مع إيران. ويستند هذا التفسير إلى منطق القول إن إيران النووية ستكون أكثر التزاما بالسلام والاستقرار في المنطقة. لكن هذا التفسير لم يكن ناجحا في التجربة مع إسرائيل. فقد أدى تسليحها نوويا إلى التوسع بالاستيطان. ورفض إقامة الدولة الفلسطينية. واستيلاء اليمين الديني والصهيوني على الحكم. أما بشأن أكثر الصراعات حدة، فقد تم الاتفاق على مجموعة مبادئ لمعالجتها، بما فيها الإدراك المشترك بأنه ليس هناك من ”حل عسكري” للصراعات الأهلية المسلحة في سوريا. والعراق. واليمن. وليبيا، وإنما سبل سياسية وسلمية. ومن دون المس بعمق العلاقة الثنائية، فقد بدا التباين واضحا بين أميركا والسعودية في اليمن. ففيما ترى أميركا ضرورة بذل جهود جماعية لمواجهة تنظيم ”القاعدة”، تجد السعودية في التحرك الحوثي المدعوم إيرانيا الخطر الأكبر على هوية اليمن العربية، وعلى المبادرة الخليجية للحل السلمي التي تعترف أميركا بأهميتها. وتريد تطوير هدنة الأيام الخمسة المنتهية، إلى وقف إطلاق نار دائم. وتتفق مع السعودية على السعي لمنع تزويد قوات الحوثيين وحلفائهم بالسلاح. وبموجب الاستراتيجية الجديدة، فقد تقرر تعزيز التعاون لمكافحة الإرهاب (السني) الذي تمارسه ”داعش”. و”القاعدة”. و”النصرة”. ومكافحة غسيل الأموال. وتطالب أميركا النظام الخليجي بدعم أكبر لعمليات التحالف الغربي/ العربي، لضرب ”داعش” في العراق. وتعزيز الروابط مع الحكومة العراقية (التي أخفق جيشها في صد الهجمات الداعشية على الرمادي). ومصفاة بيجي النفطية، وصولا إلى تجدد التهديد باجتياح بغداد. ولا يشير البيان المشترك إلى ”التنسيق” الأميركي/ الإيراني غير المباشر في الحرب العراقية. ولا إلى عمليات الميليشيات الشيعية التي يقودها قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. لكن الجانبين الأميركي والخليجي يطالبان حكومة حيدر العبادي بتحقيق ”مصالحة وطنية حقيقية”. والنظر في ”التظلمات” المشروعة، لكافة مكونات المجتمع العراقي. والتأكد من أن كافة الجماعات المسلحة (الشيعية بالذات) تعمل تحت سيطرة صارمة للدولة العراقية. وهو الأمر الذي لم يحدث البتة منذ سقوط نظام نوري المالكي. عن الأزمة السورية المتواصلة، يرفض الجانبان أي دور لنظام بشار في مستقبل سوريا، ”بعدما فقد شرعيته”. وقد التزما بالعمل للتوصل إلى حل سياسي دائم ينهي الحرب. ويؤسس لحكومة شاملة تحمي الأقليات العرقية والدينية. وتحافظ على مؤسسات الدولة. لكن البيان المشترك لا يشير إلى معلومات عن عودة النظام إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في قصف المدنيين، بعد هزائمه العسكرية التي مني بها أخيرا، هو و”حزب الله” الذي تقدر خسائره ب600 قتيل. ويواجه بشار تذمرا علويا كبيرا، لإخفاقه في تحرير جنود وضباط علويين محاصرين في مدينة جسر الشغور الاستراتيجية. والمعروف أن المصالحة السعودية/ التركية/ القطرية أتاحت تشكيل جبهة متراصة لتنظيمات معارضة سورية معتدلة. وتزويدها بالسلاح. وتمكنت من إلحاق هزائم عسكرية كبيرة بالنظام. ويتجاهل البيان مسعى المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا لعقد محادثات بين شخصيات في المعارضة. والنظام، بمشاركة موفدين إيرانيين، تتعلق بمستقبل سوريا! فيما أخفق مسعى الوزير الأميركي جون كيري الذي التقى الرئيس بوتين، للضغط على النظام لإيصال المساعدات الإنسانية لأكثر من عشرة ملايين نازح سوري في الداخل. مع ذلك تبدو روسيا محرجة، بعدما ضمنت تخلي بشار عن كامل مخزونه الكيماوي (2013). لكنها ما زالت ترفض إدانته في مجلس الأمن. وهذا يعني أن آفاق حل سوري غير متوفرة عمليا. ويمكن القول إن النظام الخليجي حصل على دعم عسكري واضح. فقد تعهدت أميركا بسرعة إمداد الخليجيين بالأسلحة. والتعاون في الأمن البحري. والإلكتروني. ورصد وإسقاط الصواريخ البالستية (الإيرانية) فور انطلاقها. وهي تعتبر وجود 35 ألف جندي أميركي وحاملة طائرات ومدمرات في الخليج، بمثابة دفاع عن أمن النظام الخليجي (ضد التهديدات الإيرانية). يبقى أن تلتزم الإدارات الأميركية المتعاقبة بتنفيذ كل هذه الالتزامات. الوضع إلى الآن لا يوحي بأن هناك تدهورا إلى مستوى صدام عسكري خليجي/ إيراني. لكن إذا حدث فسيكون كارثيا على الجانبين: تدمير البنى الأساسية المائية والنفطية. وربما قصف المنشآت والمفاعلات الإيرانية النووية. وناقلات النفط العملاقة. وإغلاق مضيق هرمز. فهل أميركا مستعدة. أو قادرة على لجم محاولات إيرانية لإنزال بحري/ بري هنا وهناك؟ ما زال الاعتماد الخليجي على السلاح الجوي المتفوق لردع التدخل البري. لكن أميركا رفضت تزويد الخليجيين بطائرة إف - 35 المتفوقة، حرصا على الاحتفاظ لإسرائيل بتفوق جوي. من هنا توجهت مصر وقطر لشراء طائرة رافال الفرنسية. ووصلت قوة العلاقات الخليجية/ الفرنسية إلى درجة إطلاق لقب ”لورنس” العرب على الرئيس فرنسوا هولاند. في المقابل، عادت روسيا بوتين وقررت تزويد إيران بمنظومة سام - 300 الدفاعية الجوية القادرة على رصد اقتراب الطيران الخليجي أو الإسرائيلي من على بعد يزيد عن مائتي كيلومتر. في التقدير الأخير، من هو الكاسب الحقيقي من اللقاء الخليجي/ الأميركي؟ إنه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي لم يحضره. فقد ”خرج” منه متمتعا بقوة سياسية وشعبية: أجرى الملك سلمان تغييرات نزيهة في الداخل، مكنت جيلا شابا من التكنوقراط من المساهمة في الإدارة الحكومية. وكانت مبادرته اليمنية، بمثابة رد اعتبار للكرامة العربية التي أهدرتها إيران بالتدخل في سوريا. العراق. لبنان. اليمن. والعاهل السعودي اليوم يتمتع بدعم عربي وإسلامي من مصر. وتركيا. وباكستان. وبتنسيق خليجي كامل، بعد المصالحة مع قطر. فيما تبدو إيران معزولة. وتعاني من خطر تحرك الأكراد. والسنة الباشتون. والشيعة الأتراك في أذربيجان المجاورة.