الأسبوع الماضي أعلن الرئيس التونسي فرض حالة الطوارئ، بعدما قتل إرهابيون 38 سائحا في فندق بمدينة سوسة على الساحل الشرقي. وكالعادة، فقد رحب بالقرار كثيرون يؤمنون بالحلول السريعة والحاسمة للمشكلات. هذا التأييد يشعرني بالقلق، نظرا لما أراه من أعراض عامة في الثقافة العربية عن الحلول الطويلة الأمد. عرفت تونس العنف السياسي منذ زمن طويل نسبيا، كما في حوادث قفصة عام 1980 وجربة عام 2002. لكني أميل للاعتقاد بأنه ليس ظاهرة مألوفة في هذا البلد. على أن هذا التاريخ بذاته يخبرنا أن هناك قابلية لظهور الإرهاب، وقد تحول إلى ظاهرة واسعة. وهذا بالتحديد ما يدفع للمطالبة بعدم الاقتصار على الحلول الأمنية. التحليل المتداول مغرم بنسبة العنف السياسي المنتشر هذه الأيام إلى ما يوصف بالغلو والتحريض. ومثل هذا التحليل ينصرف غالبا إلى حل أحادي خلاصته نشر ما يوصف بالتدين الوسطي وإسكات الدعاة المحرضين. كنت آمل أن لا يستمع السياسيون إلى مثل هذا التحليل التبسيطي. لكن واقع الحال يخبرنا أن أكثرية الناس ورجال السياسة لا يودون الاستماع إلى غيره. ذلك أنه يقدم تبريرا بسيطا وحلا بسيطا مثله، ولا يحملهم أي مسؤولية وراء ذلك. يمكن لأي سياسي أن يقول ببساطة إن سبب المشكلة يكمن في هذا المسجد أو ذلك الداعية، وليس في سياسات الدولة ولا أعمالها. الحل إذن هو إغلاق ذلك المسجد أو إسكات الداعية. لكننا نعلم أن الناس لا يحملون السلاح، لأنهم قرأوا كتابا أو استمعوا إلى خطيب. لا يتحول الإنسان من شخص لطيف موادع إلى آلة قتل وتدمير دون مقدمات طويلة. لا تتغير ذهنيات الناس بشكل مفاجئ. لم يحدث هذا أبدا، ولا يوجد أي دليل علمي أو دراسة ميدانية تدعم هذا التصور. السبب الوحيد الذي يدفعنا لقبول مثل هذه التحليلات الساذجة، هو رغبتنا في الخلاص من همّ التفكير المعمق في أسباب وأعراض المشكلات، أو قلة صبرنا على الحلول الطويلة الأمد، أو ربما الاغترار بالقوة المادية التي تملكها السلطة. كثير من كتابنا وخطبائنا يكررون علينا صورة ”المستبد العادل” التي طرحت في أوائل القرن العشرين، باعتبارها الدواء الشافي لمشكلاتنا. لكننا نعلم أن هذا التصوير العتيق ينتمي إلى ظرف تاريخي لم تعد شروطه قائمة ولا قابلة للانبعاث. فكرة المستبد العادل تشبه كثيرا فكرة ”عصا موسى” التي تلتهم الإفك كله، وتقضي على الباطل كله في لمحة عين. أظن أن ثقافتنا العامة مهووسة بهذا النوع من الحلول السحرية، لأنها سريعة، حاسمة، وغير مكلفة. لهذا السبب ربما نطالب الدولة بالحسم والسرعة وعدم التردد. تجربة العالم، وبالخصوص تجربة العرب في السنوات العشر الأخيرة علمتنا أن أسرع الحلول قد يكون أسوأها، وأن الحل البطيء الممل قد يكون هو الاختراق الحقيقي. ربما نقتل جميع الإرهابيين، لكن هذا الحل بذاته سيغذي البيئة الثقافية - الاجتماعية الحاضنة لبذور الإرهاب. لو واصلنا الاعتماد على الحلول الأمنية السريعة، فقد نرتاح من العنف اليوم، لكنه سيعود إلينا غدا أو بعد غد. إعلان الطوارئ يدفع بالمجموعات الإرهابية تحت الأرض. كانت مصر تحت قانون الطوارئ منذ 1956 حتى 2011. وكانت سوريا كذلك منذ عام 1971، وكان العراق مثلهم منذ 1968، وليبيا منذ 1969. وها نحن اليوم نرى أن العنف السياسي أكثر تجذرا ورسوخا وقوة في هذه البلدان على وجه التحديد. فهل كانت أحكام الطوارئ علاجا؟ المغالاة الآيديولوجية والتحريض على القتل والقتال – سواء كان دينيا أو علمانيا – هو الرداء الخارجي أو التبرير الثقافي/ النفسي للميول العنفية. أما مصدر هذه الميول فيوجد في العلاقة بين المجتمع والدولة، أو في الاقتصاد أو في النظام الاجتماعي أو في الثقافة العامة. بعبارة أخرى، فإننا بحاجة إلى البحث في هذه المصادر: التوترات الثقافية التي تقود إلى تأزيم الهوية، أو تأزم العلاقات الاجتماعية، أو انسداد الأفق السياسي، أو ضيق القانون، أو العجز عن التكيف مع المسارات الاقتصادية، أو غيرها. كل من هذه يشكل مصدر توتر نفسي يجعل أفرادا بعينهم، أو ربما شريحة اجتماعية، مستعدة لتقبل العدوان، باعتباره حلا أو باعتباره تنفيسا أو انتقاما. معالجة هذه المصادر تتطلب سياسات موسعة وطويلة الأمد، قد لا نشعر بثمارها خلال عام أو عامين. لكنها قد تكون طريقا للخلاص من بذور العنف ومن جذوره الكامنة في أعماق المجتمع.