تعالوا إلى جمهورية معطّلة، وإلى نظام يتهاوى، وإلى بلد ينتقل سريعًا من تضييع الفرص إلى تضييع المستقبل.. تعالوا إلى لبنان الذي يترنح على حافة هاويتين؛ هاوية انعدام وجود الدولة تقريبًا، وهاوية الوضع الاقتصادي المأزوم نتيجة الوضع السياسي المنقسم جذريًا. قبل أيام وجّه الرئيس نبيه بري رسالة ضمنية قصيرة إلى النائب ميشال عون تقول: “إن الجنرال ابن النظام، وأعتقد أنه لن يفرّط به”، لكن عون رد عليه بعد ساعات بالقول: “أنا ابن الدولة ولست ابن النظام الذي فتشت عنه ولم أجده”! جاء ذلك عشية تهديد عون بالنزول إلى الشارع لقطع الطريق على رئيس الحكومة تمام سلام ومنعه من الدعوة إلى عقد الاجتماع الأسبوعي للحكومة، واتخاذ قرارات ملحّة تعالج بعضًا من طوفان الملفات الحيوية والضرورية المتصلة بتسهيل عمل الدولة ومؤسساتها، ومنها فتح دورة استثنائية لمجلس النواب لإقرار القوانين المستعجلة بما يحول على سبيل المثال دون خسارة لبنان مبلغ مليار ونصف المليار دولار خصصته المؤسسات الدولية لمساعدته في تنفيذ عدد من المشاريع ولم يتمكن من تقديم الوثائق اللازمة لذلك! إشارة بري إلى “عدم التفريط في النظام” أشعلت الجدال القديم الحديث عن “المؤتمر التأسيسي” الذي خرج من النيات المضمرة إلى العلن لأول مرة في يوليو (تموز) من عام 2007، عندما استضافت فرنسا الأفرقاء اللبنانيين في خلوة عقدت في “سيل سانت كلو” في محاولة لحل الأزمة المتمادية، يومها قيل إن ممثلي “حزب الله” طرحوا فكرة تعديل الدستور وإحلال المثالثة (ثلث للسنّة وثلث للشيعة وثلث للمسيحيين) بدلا من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين التي أقرها “اتفاق الطائف”. ورغم أن “حزب الله” نفى تكرارًا أن يكون ممثلوه قد طرحوا هذه الفكرة، فإن إشارة السيد حسن نصر الله لاحقًا وتكرارًا إلى فكرة عقد “مؤتمر تأسيسي” أكدت أن التمادي في التعطيل المفتعل للدولة اللبنانية هدفه الوصول إلى هذا المؤتمر الذي قد يفرض المثالثة بدلاً من المناصفة كمخرج وحيد من الأزمة، بما يعني أن إنكار وجود النظام كما يقول عون سيوفر الذرائع لنسف النظام الموجود وإلغاء الدستور القائم على قواعد “اتفاق الطائف” الذي عطّله الاحتلال السوري للبلد وتولى “حزب الله” تعطيله منذ ذلك الحين. الأزمة في لبنان لم تبدأ مع استحالة انتخاب رئيس للجمهورية، واليوم السبت يصادف الرقم 420 من أيام الفراغ في المقام الرئاسي، ذلك أن فترة من التعطيل كانت قد سبقت انتخاب الرئيس المنتهية ولايته ميشال سليمان، ولم تنتهِ إلا بعد “مؤتمر الدوحة” عام 2008، الذي دسّ قنبلة التعطيل القاتلة في مفاصل النظام اللبناني، عندما أقر بدعة “الديمقراطية التوافقية” أي الإجماع، لاغيًا القاعدة الذهبية للأكثرية والأقلية التي هي روح العمل الديمقراطي، لأن من العسير اتخاذ القرارات بالإجماع، والدليل أن الجامعة العربية مثلاً فشلت دائمًا لأن قراراتها تؤخذ بالإجماع! الخطير أن مخطط التعطيل المتمادي يسري في عروق السلطات اللبنانية على طريقة الأوعية المتصلة، فالسلطتان التنفيذية والتشريعية تواجهان اشتراطات سياسية في بلد منقسم جذريًا، وإلزامات دستورية مع سياسيين ومسؤولين يعتبرون الدستور وجهة نظر في أحيان كثيرة، بمعنى أن عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية يجب أن تكون أولوية وأن تسبق العمل التشريعي، وكذلك أن تكون ناظمًا أساسيًا لعمل السلطة التنفيذية. هنا تحديدًا تبرز الحلقة المفرغة التي تم دفع الدولة اللبنانية إلى شرنقتها الخانقة، والتي تذكّرنا بالمثل المعروف “صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل.. وكل واشبع”، بمعنى أن سلطات الدولة ممنوعة من العمل تقريبا في ظل الفراغ الرئاسي المستمر، لكن الفراغ الرئاسي مستمر ما لم يتم التوافق على النائب ميشال عون حليف “حزب الله” رئيسًا للجمهورية، وهذا أمر مستحيل قياسًا بعمق خلافات وعداءات عون الكثيرة، وكذلك لناحية سياسات “حزب الله” الذي يريد إبقاء إرادة دولته فوق إرادة الدولة لأنه كلما ضعفت الدولة قويت الدويلة! وهكذا يواصل “حزب الله”، الذي أعلن أن ميشال عون مرشحه الوحيد للرئاسة، وكذلك تكتل “8 آذار”، تعطيل النصاب في مسلسل الجلسات ال26 التي عقدها مجلس النواب، بما يحول عمليًا دون انتخاب رئيس جديد، ولأنه لم يتم انتخاب رئيس جديد فعلى السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تقعا أيضًا في التعطيل. ولأن الدستور بات وجهة وغرضيات سياسية عند بعض السياسيين في لبنان فقد برزت الأزمة التي تحول دون انتخاب الرئيس عبر الخلاف على النصاب المطلوب نيابيًا لعملية الانتخاب، بمعنى أن تكتل “14 آذار” يقول إن الجلسة الأولى تحتاج إلى الثلثين، والتي تليها إلى “النصف زائد واحد”، بينما يقول تكتل “8 آذار” ومنه رئيس المجلس نبيه بري إن كل الجلسات تحتاج إلى الثلثين، ولأنه ليس في وسع كل من الطرفين تأمين الثلثين فإن الفراغ يبقى سيد اللعبة إلى أمد بعيد! .. إلى أمد بعيد؟ نعم، وبحيث يصبح “المؤتمر التأسيسي” مطلبًا وطنيًا خصوصًا في ظل الشلل المريع الذي يضرب في السلطات ومؤسسات الدولة والذي يعطّل الخدمات، وهو ما دفع الهيئات الاقتصادية والعمالية ومنظمات المجتمع المدني والمصارف والصناعيين قبل ثلاثة أسابيع إلى عقد مؤتمر جامع وجّه إنذارًا أخيرًا بأن الوضع على حافة الانهيار، ولكن كل هذا لم يمنع عون من أن يعتبر المؤتمر موجهًا ضده، لأنه يعرف ضمنًا أن معظم اللبنانيين يحمّلونه مسؤولية الفراغ الرئاسي واستفحال الأزمة الرئاسية عبر تمسكه بنظرية “أنا أو لا أحد”! عندما تكون رئاسة الجمهورية معطّلة نتيجة الفراغ، والسلطة التشريعية مشلولة نتيجة رفض القيام بأي عمل تشريعي قبل انتخاب رئيس جديد، وعندما تدخل أداة التعطيل أي فرض التوافق على عمل السلطة التنفيذية، فليس من المستغرب أن يتعطل عمل الحكومة أمام الشروط العرقوبية لأي مكوّن من مكوناتها، ففي لبنان عزيزي القارئ حكومة من “معالي” أربعة وعشرين وزيرًا، وكل من هؤلاء الأشاوس يعتبر نفسه أيضا “فخامة” رئيس للجمهورية، لأنه يملك حق الفيتو وقادر على تعطيل أي قرار، لأن القرارات تحتاج إلى أربعة وعشرين توقيعًا.. بما يمثل شرّ الوقيعة التي يقع فيها البلد التاعس. “حزب الله” يصنع التعطيل وعون يسوّقه، وآخر المفارقات أن الحزب الذي يعطّل الدولة أعلن حرصه على عدم فرط الحكومة التي يريد حليفه عون أن يعطّلها ما لم تنفّذ رغباته التي يقيّدها على حساب المسيحيين وهم ضحاياها وبراء منها!