عندما يحين أذان المغرب لتناول الإفطار في شهر رمضان المعظَّم بألحان وأشكال متباينة أحيانا بعمق، القليل منا تسعفهم البطون ليتساءلوا عن سر هذا التباين... ”... في مدينة الجزائر، كان الآذان يتم وفق أسلوب الغناء الأندلسي المحلي المعروف ب:”الصنعة” ومقاماته الموسيقية، واستلهمت قسنطينة آذانها من موسيقى ”المالوف”، وتلمسان من الغناء ”الغرناطي”، وهي جميعها من أساليب الألحان العربية الأندلسية التي تبلورت ونضجت في قرطبة الأموية ثم انتشرت كبقعة الزيت لتعم كل الربوع الأندلسية والمغاربية بلمسات طفيفة خاصة بكل منطقة من هذه المناطق. وكان الأذان يتم حسب النوبة، أو المقام، الذي يتوافق مع مزاج المؤذن وميوله الشخصية، إذ بإمكانه أن يتمَّ على نوبة رمل الماية أو نوبة الزيدان أو نوبة المَزْمُوم وغيرها، وإن طغت نوبة الزيدان ورمل الماية أكثر من غيرها من النوبات على أذان مدينة الجزائر والمدن المتوسطة والصغيرة التي تدور في فلكها الثقافي على غرار البليدة والقليعة وشرشال. كما يجوز للمؤذن أن ينتقل من نوبة إلى أخرى على هواه من أذان إلى آخر بين صلاة الفجر وصلاة العشاء مثلما يتفسح المغني للنوبات الأندلسية الأربع والعشرين على سجيته متنقلا من نوبة إلى أخرى حسب مزاج البشر النفسي على مدى ساعات اليوم الأربع والعشرين، لأن ما تهواه النفس من ألحان في منتصف النار ليس هو ما تهواه في منتصف الليل أو عند بزوغ الشمس. وكان أذان البدء في الصلاة يتم تقريبا على نفس النحو مع بعض التباينات الطفيفة. لكن العادات كانت تقتضي أن تكون النوبة التي يُعلن بواسطتها إقامة الصلاةهي نفسها التي تُعتمد في تلاوة القرآن أوتجويده أثناء الصلاة. أما أذان صلاة العيد وتكبيرة العيد، ”الله أكبر، الله أكبر، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر”، فكان أداؤهما يتم وفق نوبة السيكة القريبة جدا من موسيقى الفلامينكو الإسباني. ويتردد في الأوساط الحضرية لمدينة الجزائر أن أول مَن وضع ألحان هذه التكبيرة التي أصبحتْ تقليدا وطنيا في الجزائر هو المفتي الحنفي التركي أبو الحسن العتري أو العنتري قبل نحو 5 قرون. في مدينة الجزائر، على سبيل المثال، خلال العقود الأولى من القرن 20م، كان من بين أجمل الأصوات التي برعتْ في الآذان وما زال صداها يتردد إلى اليوم وذكراها حية في الأذهان أصوات كلٍّ من محيي الدين باش طارزي، والصحفي الرسَّام عُمَر رَاسِم الجزائري، والشيخ بن النُّوبِيَة، والشيخ المفتي باباعمرو، والشيخ مَامَادْ البستانجي (يُنطق: بَسْطَانْجِي في الجزائر) الذي كان في فترة معينة رئيسا لجمعية الجزائرية – الموصلية للغناء والطرب الأندلسي. دون أن يفوتنا ذِكر الشيخ البُلَيْدِي، والشيخ أحمد ابن يوسف، والشيخ بَكِيرْ المَسكْجِي، والفنان الشيخ أحمد سري في النصف الثاني من القرن ذاته...إلخ. ولم يفعل هذا الجيل أكثر من الاحتفاظ بتقاليد عززها مفتين وقضاة مالكيين وأحناف خلال القرن 18م أثناء الحقبة العثمانية من تاريخ البلاد على غرار المفتي/الفنان سيدي محمد بن الشاهد وصديقه المفتي/الشاعر سيدي ابن عمّار والحنفي سيدي بن علي وغيرهم من القامات الفقهية والروحية في الحواضر الجزائرية الكبرى والمتوسطة. ومع رحيل أغلب رجال هذه الأجيال، أجيال القرن 20م، لم يبق من الذين يتقنون فن الأذان الجزائري سوى قلة قليلة تُعَدُّ على الأصابع، فيما اكتسحت الأساليب المشرقية والحجازية الخاضعة للقواعد الموسيقية المحلية المساجد والجوامع الجزائرية بسبب شبه القَدَاسَة التي يتمتع بها كلُّ ما جاء من الشرق في المجال الرُّوحي في الجزائر، لأن هذا الشرقَ كان مصدرَ رسالة الإسلام قبل 15 قرنا وما زالت مكانته الروحية في القلوب هي هي لم تتأثر بكوارث الأمور الدنيوية...”... عندما تسمعون المؤذن ينادي إلى الصلاة والإفطار بنكهة تبدو وكأنها قبائلية جرجرية فاعلموا أنه الآذان المغاربي الأندلسي الذي ما زال يُعمِّر بيننا على الأقل في بعض المساجد وبعض القنوات الإذاعية والتلفزيونية.... وصح فطوركم. المصدر بتصرف: فوزي سعد الله: صفحات مجهولة من تاريخ الغناء الأندلسي في الحزائر. دار قرطبة. الجزائر 2011م.