استخبار بدأت فكرة هذا الملحق بموضوع خاص بعمر التذوق، أردنا من خلاله طرح فرضية الوصول إلى عمر معين حتى يتمكن الشاب الجزائري من الاستماع إلى نوبة أندلسية مثلا، بمعنى آخر: في أي عمر يستمع الجزائري إلى الموسيقى الكلاسيكية؟ هل يقوى على ذلك في سنوات مراهقته الأولى، أم أن الأمر يتطلب نضجاً معيناً؟ وما علاقة الموسيقى الأندلسية في الجزائر بالعمر؟ هل هي موسيقى الكهولة؟ ولماذا لا يلتف حولها الشباب؟ خاصة أنها موسيقى عريقة وتعيش بين ظهرانينا منذ القرن الخامس عشر، وتلقن أساسا للصغار في الجمعيات المنتشرة في الحواضر الموسيقية على كامل ربوع الجزائر. سألنا عددا كبيرا من الشباب حول الموضوع، أجمع الكثير منهم على استحالة بقائهم لأكثر من نصف ساعة أمام جوق موسيقي أندلسي، ولكن هل هذه هي المشكلة؟ هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ خاصة أنها فكرة سلبية بالأساس لأنه بالموازاة هناك شباب حقيقي يصنع هذه الموسيقى ويحرص على استمرارها. وهكذا انتقلنا من عمر التذوق المحدود إلى خلود النوبة الأندلسية؟ دخلنا إلى عالم جميل قادم من نسيم الأندلس وطيب زجلها.. النوبة الأندلسية التي تفوق كل الأعمار تحتاج فعلا أن يتعرف عليها الشباب. سنحاول التعرف في هذا المقام إلى تاريخ النوبة ورحلتها من الأندلس إلى تلمسان والعاصمة وقسنطينة، ومعرفة مدارسها الثلاث المتمثلة في ”الصنعة”، ”الغرناطي” و”المالوف”، كذلك حكاية عدد النوبات ال24 التي توافق ساعات اليوم، بل وتوافق طبوعها طباع الإنسان وحالاته النفسية المتغيرة، وسط الحديث عن اختفاء نصف هذه النوبات. كذلك سنحاول معرفة معنى ”الحلة البهية والرتبة العلية” التي تحافظ عليها النوبة، بالإضافة إلى طريقة تدوين النوبات في الجزائر، ومحاولة جمعها بدءا من أدمون نطان ابن مخلوف يافيل، وصولا إلى تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، دون نسيان بيوت النوبة.. وهي الجمعيات التي حملت على عاتقها توريث النوبة جيلا بعد جيل. المصّدر بحث في فائدة 12 نوبة ”نوبة رمل الماية” أو”نوبة رصد الذيل”، أسماء لنوبات قد يعرفها البعض، وقد لا تشكل شيئا لآخرين، استغرقت وقتا طويلاً حتى وصلت إلينا بهذا الشكل، بدأت مع إسحاق الموصلي الذي قدم لتلميذه زرياب أصول المقامات المشرقية، ثم ساهمت أجواء الأندلس والتأثيرات المغربية والغربية والحياة الاجتماعية في العصور الوسطى في تشكيلها وخلق روحها المتعددة الثقافات. النوبة، تعني الدور الذي يتوجب على المجموعة الموسيقية التقيد به، ضمن برنامج محدد يحفظ للجميع وقته ووصلته أمام الخليفة خلال الليلة الواحدة، تحت مسمّى الوصلة، وكذلك الحركة، ويقال إنها كانت تجمع في ربيرتوارها 24 نوبة توافقا مع ساعات اليوم، وأكثر من ذلك كل نوبة تختص بإيقاع مختلف يصلح لساعة معينة من اليوم ويراعي مزاج ونفسية الفرد في ذلك الوقت فيوافقه وينزل على روحه السكينة، وذلك وفقا لمعتقدات تنجيمية، وأمور روحانية تداخل فيها الفلسفة والإيحاءات الصوفية، باعتبار أن الموسيقى الأندلسية مثل التصوف تحتاج أيضا إلى شيخ. بعد سقوط الأندلس، قبل أكثر من سبعة قرون، انتقلت عائلات أندلسية كثيرة للعيش في الحظائر المقابلة في الضفة الأخرى على غرار المغرب والجزائروتونس وأيضا ليبيا بدرجة أقل. تلك العائلات نقلت معها كل أشكال حضارتها من ضمنها الموسيقى، وقبل ذلك كانت هناك موسيقى أندلسية في تلك الحواضر نتيجة التبادلات التجارية التي انتقلت مع الوقت إلى تبادلات ثقافية. مع سقوط الأندلس صارت بلاد المغرب الوريث الشرعي لهذه الموسيقى، والجزائر بحواضرها الثلاث.. تلمسانوالجزائر العاصمة وقسنطينة، كانت الأكثر استقطابا لهذه الموسيقى. النوبة في تلمسان تسمى ”الغرناطية”، وهي مدرسة قائمة بذاتها تفرعت منها أنواع غنائية كثيرة على غرار ”الحوزي”، لها إيقاعاتها الخاصة وهي تتفق كثيرا مع المدارس الموجودة في المغرب. أما في الجزائر العاصمة فمدرسة النوبة هي ”الصنعة”، وهذا الاسم يدل على مكانة هذه الموسيقي؛ بحيث جعلها أصحابها مهنة مستقلة تماما كما المهن الأخرى، فيما كانت باقي الحواضر تعد هذه الموسيقي هواية تمارسها إلى جانب مهنها الأساسية، وبالتالي أضافوا عليها أمورا كثيرة واعتنوا بها كثيرا. أما ”المالوف” فقد قدمت له قسنطينة إيقاعاها الذي يشترك مع تونس في نقاط كثيرة، ويسمى ”المالوف” الذي يعني ما ألف سمعه وربما معنى التأليف أيضا، كما أنه تأثر قليلا بالموسيقى العثمانية في ذلك الوقت ومن أغصانه المحجوز. تجمع المغرب الآن حوالي 11 نوبة، وتونس 13 نوبة، وليبيا 8 نوبات، وفي الجزائر أحصينا 12 نوبة ونصف، لأن كل نوبة تضم خمسة أجزاء هي ”المصّدر”، ”بطايحي”، ”الدرج” ”الانصراف” والخلاص، وعليه النوبة الأخيرة بها نقائص في هذه الأجزاء. لكن هناك أمور متداخلة، حيث أن بعض النوبات تضم أكثر من مصدر وأكثر من درج، وبالتالي لا يمكن تحديدها بشكل كامل. (سنعود إلى كل هذا عندما نصل إلى جزء النوبة والتدوين) لذا علينا الآن أن نعلم أن النوبات في الجزائر هي 12 نوبة ونصف، والضائع منها 11 نوبة ونصف. يقول الباحث والمؤرخ الموسيقي، عبد القادر بن دعماش، في هذا الأمر:”علميا لا يوجد أي دليل على وجود 24 نوبة تبعا لساعات اليوم، صحيح هناك تقاليد خاصة بكل نوبة، بعض النوبات لا تعزف إلا في أوقات محددة، ولكن لا يوجد مرجع يؤكد أن لدينا 24 نوبة، وعليه عمليا لدينا أكثر من 24 نوبة، حيث أن هناك انقلابات تعادل نوبات بالكامل، وهناك أجزاء من نوبة معينة يمكن أن تعزف بعدة طرق وتوشيات طويلة، وانصرافات طويلة، لذا أعتقد أن الجزم بوجود 24 نوبة هو اعتقاد فقط”. من جانبه يقول المطرب سمير تومي، في حديثه إلينا إن:”النوبة هي صنعة، وهناك من كان يخفي الصنعة، فلا يقدمها للآخرين، لأنها تخصه بل وكأنها من بين أسرار المهنة، لهذا السبب ضاعت بعض النوبات ولم تصل إلينا، كذلك تدوين النوبات لم يكن إلا في بداية القرن العشرين”. البطايحي ابن بائع اللوبياء الذي أنقذ النوبة رغم ما ذهب إليه الأستاذ بن دعماش، إلا أن وجود نصف نوبة في خضم تعداد النوبات في الجزائر، يؤكد نظرية الضياع الذي طال التراث الموسيقي الأندلسي، والمؤكد أيضا أنه طيلة قرون خلت كانت هذه النوبات تنتقل شفهيا من جيل إلى آخر، لذلك أردنا ان نعود إلى بداية القصة. تؤكد الوثائق التي وقعت بين أيدينا، أن أول جمع لهذه النوبات كان على يد اليهودي أدمون نطان ابن مخلوف يافيل، الذي وثق للنوبة في كتابه ”مجموع يافيل” وعنوانه الكامل هو ”مجموع الأغاني والألحان من كلام الأندلس”، طبع في الجزائر العاصمة سنة 1322 هجري الموافق ل1904 ويافيل هذا من مواليد القصبة سنة 1874 من عائلة يهودية جزائرية، والده كان يملك مطعما شعبيا في القصبة يعرف باسم ”مخلوف اللوبياء”، تتلمذ على يد شيخ شيوخ الصنعة هو محمد سفينجة، كما أنه كان صديق وأستاذ الفنان الشامل محيي الدين بشطارزي. جاءت مقدمة الكتاب باللغة الدارجة (وسنوردها كما جاءت) على النحو التالي: ”طبعنا هذا الديوان لأننا رأينا هذا الفن الغناء وكلام الأندلس يفنون وينقصون كل يوم، فكل الذي يتوفى ما يخلف عوضا عنه أحدا آخر، يكون قرنه في هذا الفن، وما ذهب به في القبر من الكلام والصنايع لا يعرفها الباقون ولا يحفظونها، ولا يخفى عند الحاضرين والغائبين بأنه في هذا الوقت كل والع في الألحان والأغاني الذي يريد يتعلم لحنا من الألحان.. الذي يحتاج إليه وما يجده يمضي يطلبه من اللي يكون عنده موجودا، فلا يعطيه الآلي لا بالدراهم ولا بالابتهالات لكي تبقى تلك الألحان مسجونة عنده وما تبان عند الناس الأخرى أثرة له، ولذلك اجمعنا أربعة عشر نوبة التي بقيت من كلام الأندلس وطبعناها وجعلنا بها دواوين الغناء، وكذلك حتى لحن من هذا الألحان ما يزول، أيضا أن يجب هذا الفن ويكون عنده هذا الديوان يكسب كتابا نفيسا لا يوجد متله أبدا.” بعد ذلك كتب يافيل، كتابا ثانيا أقل حجما ولكنه بذات القيمة ويسمى ”مجموع زهو الأنيس المختص بالتباسي والقوادس” سنة 1907، ويقصد يافيل بالتباسي او التبسي ”الأسطوانة الموسيقية” أو باللغة الفرنسية les disques ، أما القوادس فهي التسمية الدارجة للأسطوانات آنذاك les cylindres، ما يعني أن كتابه الثاني هذا كان مجموع النوبات التي سجلها بواسطة التقنيات التسجيلية الخاصة بذلك الزمن، يافيل لوحده سجل حوالي 2000 تسجيل كله خاص بكلام الصنعة.
يقول الباحث أحمد أمين دلاي في هذا الصدد:” أنقذ يافيل عددا لابأس به من النصوص الشعرية وكلام غنائي منوع من التلف، يقدم لنا صورة مطابقة لما كانت عليه الأغنية الجزائرية في القرن التاسع عشر، وكذلك يطلعنا على الحس الفني للأجيال السالفة وتصورهم لتسلسل الأنواع الغنائية على أساس درجة التصنع الجمالي والقدرة على الصمود في وجه الدهر، ولهذا كان من الواجب أن نعيد نشره وأن ننوه بأهميته الثقافية والتاريخية”. بعد يافيل وأثناء الفترة الاستعمارية استمرت التسجيلات الموسيقية ولكن بطرق فردية، حيث قدم إلى الجزائر عدد كبير من المنتجين الموسيقيين، وتم تسجيل عدد معتبر من النوبات ومختلف الطبوع التي تفرعت عنها، كما تنقل مؤديي هذا النوع كذلك إلى فرنسا وواصلوا التسجيلات. بعد استقلال الجزائر سنة 1962، أخذت الإذاعة الوطنية على عاتقها تسجيل النوبات، ولكن المكتبة لم يتم رقمنتها ولم تظهر نتائج ذلك بصورة واضحة، ما جعل المهتمين في نهاية السبعينيات وبداية الستينيات يقومون بإعادة جمع كل ذلك عن طريق التسجيل والتدوين.. فكانت سلسلة التراث الغنائي الجزائري من خلال كتاب ”الموشحات والأزجال” للمعهد الوطني للموسيقى في ثلاث أجزاء، أعده وحققه الأستاذ الحفناوي أمقران وقدمه جلوس يلس، وشارك في كتابته كل من حسونة الحونة من مدرسة قسنطينة، ودحمان بن عاشور من الجزائر العاصمة، أيضا عبد الكريم دالي من تلمسان، وكذا خير الدين عبور من تلمسان. المرجع الثالث، والذي كتبه الشيخ سيد أحمد سّري بعنوان ”الطرب الأندلسي مجموعة أشعار وأزجال موسيقى الصنعة”، جمع حسب مدرسة الجزائر العاصمة ”الصنعة” وجاء في 14 نوبة هي كالتالي: نوبة الذيل، الحسين، الرمل، الزيدان، المزمزم، رصد الديل، الجاركة، المجنبة، رمل الماية، الغريب، الرصد، الصيكة، الماية، الموال. هذا الكتاب الأخير لشخص سيد أحمد سّري، أعيد طبعه مرات عديدة، نظراً للمكانة التي يتمتع بها الشيخ سيد أحمد سّري والذي لا يزال على قيد الحياة، بحيث تتلمذ على يد أهم شخصية موسيقية آنذاك - وهو عبد الرزاق فخارجي، الذي كان يصنع مجد الأغنية الأندلسية في خمسينيات القرن الماضي. هذا لا يعني أننا قمنا بعملية التدوين كاملة، لأن العملية تحتاج إلى أكثر من هذا وهناك محاولات جدية في البلدان المجاورة، لاسيما المغرب التي انتهت من رصد كل ما يتواجد لديها في هذا الفن. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عبد القادر بن دعماش في حديثه إلينا:”يعود الفضل في الجزائر إلى جهود يافيل، حيث ظل لعقود عديدة المرجع الأول الوحيد في هذا المجال، بعدها جاءت مجلدات المعهد الوطني للموسيقي في ثمانينيات القرن الماضي، كما أن كتاب سيد أحمد سّري من بين الكتب التي يعتمد عليها الشباب اليوم وتعد مرجعا أساسيا لكل من أراد الولوج إلى عالم الصنعة، أما المحاولات المتبقية فكانت لشباب لم يضف شيئا على ما قدمه الأولون. هناك أيضا تجربة تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، هذه التظاهرة الثقافية التي احتضنتها الجزائر سنة 2011، والتي تخللتها ملتقيات عديدة على غرار ملتقى الشعر والموسيقى الأندلسية الذي جمع حوالي 45 نوبة، وكل هذا في نهاية الأمر يدل على الثراء اللامتناهي في هذا المجال..”. الدرّج بيوت النوبة في زمن الراي: قبل وجود الجمعيات التي تنتشر اليوم في كامل الحضائر المهتمة بالفن الأندلسي والتي يمكن رصدها في المناطق التالية: ”تلمسان، مستغانم، تنس، شرشال، القليعة، بواسماعيل، الجزائر العاصمة، خميس مليانة، البليدة، قسنطينة وغيرها، كان الجوق الأندلسي يجتمع فقط في الحفلات الخاصة والأعراس، أثناء الفترة الاستعمارية الأولى الممتدة بين سنتي 1830-1900 انتشرت المقاهي الغنائية والمسارح والكازينوهات، ومن خلال إدارة جيدة لليهود استطاعت هذه الأخيرة من البروز والظهور كنوع خاص بالثقافة المحلية التي لم تستطع فرنسا من التدخل فيه رغم حفاظه على اللغة العربية وذلك من خلال دفاع اليهود المستميت عنه. في مطلع القرن العشرين وبالتحديد في سنة 1900 أصدرت فرنسا قانونا يمكن بموجبه إنشاء شركات ثقافية، فكانت البداية الحقيقية لبيوت النوبة، من خلال أول جمعية وهي جمعية ”المطربية” والتي كان يترأسها أدمون بن مخلوف يافيل صاحب كتاب ”مجموع يافيل” بعد ذلك انخرط محي الدين بشطارزي سنة 1918 في الجمعية وصار التلميذ المفضل ليافيل، جاءت بعد ذلك جمعية ”الجزائرية” سنة 1927 ثم ”الموصلية” سنة 1928 وقبل ذلك كانت هناك جمعية ”نادي الهلال” في مستغانم سنة 1912 وجمعية ”الجنادية” في عنابة.. في هذا الصدد التقينا الشيخ إسماعيل هني صاحب التاريخ الطويل في مجال الجمعيات والذي خصنا بهذه الدردشة حول بيوت النوبة: كيف ساهمت الجمعيات في الحفاظ على النوبة الأندلسية؟ الجمعيات هي الشكل الأساسي الذي تقوم عليه الموسيقى الأندلسية، ونحن عندما نقول جمعية إنما نقصد في الحقيقية مدرسة، لأنها تمثل ذلك فعلا، وهي بمثابة فصل دراسي مهمته الأساسية نقل الموسيقى من الشيخ إلى التلاميذ، من خلال أمرين هما العزف وحفظ الكلام، والبداية كانت في الجزائر لليهود، هم الذين خلقوا هذا التقليد الخاص بالجمعيات، بعد ذلك استلم منهم الجزائريون المشعل وواصلوا الطريق، بالتأكيد لا ننزع من هؤلاء صفة الجزائريون لأنهم ينتمون إلى هذه الأرض والدور الذي قدمه يافيل في جمع والحفاظ على هذه الموسيقى لا يمكن لأحد أن ينكره. هل حافظ الجزائريون على النوبة بعد الاستقلال خاصة مع مغادرة اليهود؟ نعم، عملية النقل تعتمد على الشيخ الذي يقدم كل معارفه وعلى التلميذ التواق الذي يبذل جهدا كبيرا من أجل التعلم، وعليه لم تهتز النوبة بعد الاستقلال، كما أعطت المهرجانات دفعا جديداً للجمعيات ولتأسيس جمعيات جديدة. وهذا من خلال أول مهرجان وهو مهرجان الموسيقى الكلاسيكية الجزائرية سنة 1968 بالعاصمة، استمر المهرجان إلى غاية السبعينات، بفضل جهود محمد الصديق بن يحي وزير الثقافة آنذاك والذي كان إنسانا ذواقاً للفن الأصيل. ظهرت بعد الاستقلال جمعية الفن والأدب برويسو في منصف السبعينات بقيادة مصطفى بوتريش، كذلك تأسست جمعية الفخارجية سنة 1981 بقيادة محمد خزناجي، ومنها خرجت السندسية سنة 1986 والتي كانت بقيادة المتحدث، بعد ذلك نجد جمعية مزغنة، الفنون الجميلة، العناديل، قرطبة، الانشراح، القيصرية والآن هناك عدد كبير جدا من الجمعيات في كامل الجزائر. ما هي الفروق المتواجدة بين كل هذه الجمعيات؟ بالتأكيد الفروق تكون في الشيخ، كل شيخ له طريقته المختلفة ومدرسته الخاصة التي يسعى للحفاظ عليها، وهذا لا يؤثر في شيء، على العكس هذا يزيد من الثراء الموسيقي في الجزائر. قدمت نوبة مغاربية استندت فيها إلى المدارس المغاربية في كل من تونس والمغرب كيف كانت التجربة؟ نعم، قمت بذلك في مرحلة تواجدي في جمعية السندسية، سنة 1988، وكان اسم النوبة ”النوبة المغاربية” في مقام الزيدان الذي هو الحجاز الكبير في المغرب والحسين في تونس، وكانت تجربة مهمة في حياتي اكتشفت من خلالها الوحدة الداخلية التي تتمتع بها النوبة. ما هو دور المعهد البلدي في القصبة السفلى في مسارك الشخصي؟ أسس المعهد البلدي منذ أكثر من قرن وكان الجامع للكثير من الجمعيات ومكان تدريباتها، أنا شخصيا بدأت من ذلك المكان، وأتمنى أن يلاقي القدر الذي يستحقه لأنه بالفعل متحف الموسيقى الأندلسية في العاصمة. الإنصراف ”مولاة النوبة” أو حارستها: منذ البدايات الأولى، كانت المرأة حاضرة في الموسيقى لاسيما الموسيقى الأندلسية، التي هي في الأساس موسيقى تكونت في بلاط الحكم؛ أين كان للجواري دورا بارزاً، سيما الجواري الروميات اللواتي كان يتم تعليمهن أصول الغناء والعزف والتاريخ الأندلسي وفي هذا الصدد نذكر ”الجعفاء جارية الأمير عبد الرحمن، وقمر جارية إبراهيم بن حجاج، كذلك أنس القلوب جارية المنصور بن أبي عامر، وأخرى تدعى غاية المنى، والعبادية جارية المعتمد بن عباد، كما قام زرياب نفسه بتعليم ابنتيه الغناء وهما علية وحمدونة. كذلك يحفظ التاريخ اسم الشاعرة ولادة بنت المستكفي والكثيرات غيرها سواء كن من الجواري أو الحرائر. في الجزائر وخلال الفترة الاستعمارية، ظهرت أسماء نسوية خلقت لنفسها وجوداً حقيقيا داخل الأغنية الأندلسية أمثال الشيخة طيطمة في تلمسان ومريم فكاي وفضيلة الدزيرية في العاصمة كذلك المعلمة يامنة وأليس ورينات ذواتي الأصول اليهودية. ولكن تلك الفرديات كانت ولا تزال تشكل الاستثناء، خاصة إذا عرفنا أن المجموعات النسائية خلقت لها ألوانا وطبوعا خاصة على غرار القادريات والمسامعات والمداحات والطبالات في كامل ربوع الجزائر، وعليه نريد أن نعرف الدور الحقيقي للمرأة في الجوق الموسيقي الأندلسي، بحيث لا يخلو اليوم جوف من هذه الأجواق من العنصر النسوي، فهل مرد ذلك صورة جمالية لابد للمجلس أن يضمها إليه، أم أنها ضرورة صوتية تحتاج إليها النوبة في بعض مقاطعها؟ يقول عبد القادر بن دعماش في هذا الصدد ما يلي: ”وجود المرأة في الموسيقى كان أساسيا، فالموسيقى هي الحس المرهف والمرأة تتمكن من هذا الدور جيدا، لذا لا يمكن إغفال الجانب الجمالي في هذا، ولكن من ناحية تقنية المرأة تمتلك طبقات مثل الميزو سبرانو لا يتمكن الرجل من أدائها، وبالتالي وجودها ضروري جدا. بل وتعدت المرأة أصلا هذا النقاش بحيث قامت بتسجيل النوبات والحفاظ عليها مثل بهجة رجال ونسيمة وقبلهما مريم فكاي والشيخة طيطمة وفضيلة الدزيزية”. من جانبه يؤكد الشيخ إسماعيل هني أن ”أول جمعية اعتمدت العنصر النسوي هي الموصلية، التي استطاعت جمع عدد من الأصوات النسوية في جوقها لتصبح بعد ذلك تقاليدا ثابتا في كافة الجمعيات، والحقيقة أن المرأة أضافت الكثير للجوق الأندلسي بحيث رفع ذلك الاختلاط الجمعية إلى مرتبة العائلة وصار الالتزام بالأخلاق والاحترام المتبادل أكثر من ذي قبل، كذلك بالنسبة للتقنية الصوتية المرأة رفعت الكآبة التي يمكن أن تسيطر على الغناء وأضافت مرحها وسحرها الخاص”. الخلاص الحلة البهية، الرتبة العلية، النغمة الذكية ونفوس رقاق ”الموسيقى الأندلسية تتكون من أربعة أغصان أساسية وهي: حلة بهية، رتبة علية، نغمة ذكية ونفوس رقاق، فالجوق يجب أن يكون في حلة بهية ولا يمكن أن تعزف هذه الموسيقى في الشوارع، بل يجب أن تكون على مسرح مرتفع، أما النغمة الذكية فلا يمكن أن يؤديها أي جوق كيفما اتفق، بل يجب أن يكون مركبا على قواعد موسيقية عالما بأصول ما يؤدي، أما الذين ينصتون إلى هذه الموسيقى فهم أصحاب النفوس الرقاق والأرواح الرهيفة”. هذه هي أصول الفن الأندلسي، حسب المختصين والتي سنبدؤها بالحلة البهية، حيث يحافظ الجوف الأندلسي بالتوازي على الزي التقليدي والذي صار يسمى بالزي الأندلسي، سمير التومي يخبرنا: ”يحتفظ الجوق الموسيقي الأندلسي بالزي التقليدي، ويظهر في مجالسه بأحسن حلة، وهذا شكل إيجابي لا يمكننا إلا أن نحافظ عليه، شخصيا أحب جدا هذا التقليد وأحرص عليه خاصة في جولاتي إلى خارج الوطن”. بن دعماش، يذهب إلى أكثر من ذلك فيقول: ”الموسيقى الأندلسية هي نمط حياة بالكامل، واللباس ما هو إلا الشكل الخارجي الذي لابد أن يظهر به المؤدي، كل هذا يخبئ أمورا أكثر قيمة وهي الرزانة وهدوء الكلام، والحطة كما نقول بالعامية التي تعني الوقار والهيبة الاجتماعية، الفن الأندلسي مع الوقت تداخل كثيرا في حياة المؤدي ووضعه في نمط معين، تماما مثل الأغنية الشعبية التي تعني أسلوب حياة كامل”. النقطة الثانية وهي الرتبة العلية، حيث يوضح لنا دائما عبد القادر بن دعماش أن العائلات التي جاءت إلى شمال إفريقيا بعد مطاردة الملكة اليزابيلا كانوا في العموم عائلات ميسورة، حملوا معهم كل مظاهر الرفاهية والتي كانت الموسيقى الأندلسية من بينها، وبالتالي هم أصحاب مرتبة علية وناس يتذوقون الفن ويمارسونه كهواية كما يلقنونه لأبنائهم. إسماعيل هني يؤكد أيضا أننا من خلال الأسماء التي يحملها رواد الفن الأندلسي على غرار الفخارجي وخزناجي وبشطارزي وقرطبي وغيرها نستنتج أنهم من أصول عريقة، لها باع طويل في مجال الفن. أما المطرب سمير تومي فيقول: ”المرتبة العلية الحقيقية هي التقيد بأجزاء النوبة ومختلف تقنياتها وأدواتها وهذا هو الأهم، خاصة في الوقت الحالي حيث كل الأبواب مفتوحة لمن أراد التعلم”. أما النقطة الثالثة وهي النغمة الذكية، فلا يوجد اختلاف كبير بشأنها. وكل ما قدمناه في هذا المقام يشرح بالتفاصيل العبقرية الموسيقية التي كانت لدى رواد وأعمدة الفن الأندلسي، في حين تعيدنا النقطة الأخيرة وهي رقاق النفوس إلى المتلقي الذي كنا قد بدأنا به موضوعنا.. النفوس الرقاق هي التي تتذوق الفن الأندلسي وتجلس مطولا أمام نوباته بلا كلل أو ملل. هو السؤال إذن من جديد الذي يعيدنا إلى عمر التذوق الفني وهو بالتأكيد موضوع ملاحقنا في الأعداد القادمة.