تذكرت في أيام حديث العامة عن التفاح وتعثر ميركل وحديث الخاصة عن التهاب الشعب الهوائية و”نقل تكنولوجيا الميكانيك”، واقعة عمرها قرابة نصف قرن، حين قررت الحكومة الفرنسية وقف استيراد الخمور الجزائرية ومنع تصديرها إلى باقي أسواق العالم، ردا على قرار جزائري بتأميم المحروقات. كانت إيرادات هذه الخمور وقتها أهم مداخيل الجزائر من العملة الأجنبية، وكان تصديرها يتم عبر شركات فرنسية كون بلادنا لم تتوفر لها بعد شروط الولوج إلى أسواق تربطها بتلك الشركات عقود طويلة الأمد. كان ذلك التصرف عقابا للدولة الجزائرية يرمي إلى الضغط عليها وتركيعها وإرغامها على التراجع عن قرار التأميم. وتكدست كميات كبيرة من الخمور في مخازن الجمع وفي الموانئ، كما يفترض أن يتكدس التفاح الفرنسي بعد حملة الجني المقبلة في المخازن والموانئ في حال صمدت حكومة السيد عبد المالك سلال ولم تذعن لأوامر تجار التفاح. كنا شبابا وقتها نردد نكتة منسوبة إلى الراحل قايد أحمد وهو ضابط سابق في جيش التحرير ويشغل منصب مسؤول جهاز الحزب. النكتة مفادها أن الرجل ألقى خطابا هاجم فيه فرنسا لأنها تسببت بقرارها في عجز ميزانية الجزائر. ودفع به الحماس إلى القول ”نحن لا نحتاج فرنسا ولا أسواقها.. شراب بلادنا يشربوه أولادنا” وصفق الجميع لكبريائه. وفي غضون أيام من الشد والجذب صدر قرار باسم الرئيس هواري بومدين يقضي بقلع دوالي العنب الخاصة بإنتاج الخمور لأننا لا نملك قوة تجارية مستقلة لصرفها. القرار فاجأ حتى الأوساط السياسية والاقتصادية الفرنسية لكن الجميع فهم أن لعبة ليّ الذراع انتهت. شريط الذكريات هذا سحبَتْهُ من مكانه السحيق في الذاكرة تصريحات حملت أحلاما وردية لمسؤولين عن نقل تكنولوجيا صناعة السيارات، في أعقاب اجتماع اقتصادي مشترك مع الألمان الأسبوع الماضي، ردد هؤلاء المسؤولون هذا الكلام مرات ومرات ووزعه التلفزيون والإذاعة والصحف بلغة البديهيات التي لا يرقى إليها الشك، وأدخلوه في سياق استراتيجية اقتصادية جديدة تخرج البلد من التبعية لإيرادات النفط. تحدثوا عن ورش تركيب السيارات التي تعمل حاليا وكذا تلك التي ستفتح لاحقا كما لو أن البلد انتقل فعلا إلى مصف الدول الصناعية. لكنهم لم يتعرضوا تماما إلى المعضلة وهي إيجاد سوق قادرة على استيعاب المنتجات. فالجزائر هي البلد الوحيد في العالم الذي يُقبل على صناعة سيارات دون دراسة جدوى ودون معرفة قدرة السوق على الاستيعاب ودون أفق تصدير. فكل الدول التي تصنع السيارات أو تركبها - بلا استثناء - تفكر أولا في التصدير، فيما الجزائر تركب سيارات ممنوعة من التصدير بقوة القانون. والمقصود هنا بالذات سيارات رونو التي تخرج من ورشة وهران حيث تستورد مفككة بدولارات النفط وتركب لتسوق داخل الجزائر بالدينار، ثروة يخلقها هذا المشروع وأي إضافة يقدمها للاقتصاد الوطني وهو مشروع يرتكز على الاستيراد الكامل بإضافة خدمة تركيب لا تستحق الذكر. فكثير من البلدان تحمل السيارات إلى أسواق التصدير مفككة ويتم تركيبها داخل بواخر تحولت ببساطة إلى ورش تركيب. ولا يقل وضع سيارات ”هيونداي” التي تخرج من تيارت حرجا عن سابقتها. فهي لن تستطيع اقتحام الأسواق الخارجية لأن البلد لا يتوفر على قدرة وخبرة في هذا المجال، فمن ذا الذي يتنازل عن سوقه كي تبيع به الجزائر سياراتها. ثم أن ورشات ”هيونداي” تركب سيارات يصل سعر بعضها إلى 500 مليون سنتيم فمن يشتريها في السوق المحلية؟ والأمر ذاته بالنسبة لسيارات فولكسفاغن التي ستشرع مؤسسة سوفاك في تركيبها بداية من جوان المقبل، كل التشكيلة تزيد أسعارها عن 300 مليون سنتيم (غولف وكادي وسكودا أوكتافي). فحتى حل ”سيارات بلادنا يركبها أولادنا” غير متاح بالنظر لهذه الأسعار ولضعف القدرة الشرائية لدى الجزائريين. ليت من يقال إنهم ينقلون إلينا التكنولوجيا اليوم ينقلون إلينا طرق التسويق والماركتينع بدل نقل تكنولوجيا تموت في وهرانوتيارت وغليزان ومدن أخرى بغرب البلاد. قبل نحو ربع قرن اقتلعت الجزائر العنب من آلاف الهكتارات بعدما صار تسويق خمرها مجال مساومة على سيادتها وقرارها، فماذا ستفعل اليوم حين تعجز عن إيجاد أسواق لصرف سياراتها؟ وقبل ربع قرن من الزمن تداول شباب الجزائر نكتة ”شراب بلادنا يشربوه أولادنا” لكن اليوم أخشى أن يردد الجزائريون بعد حين أن ورش السيارات التي زرعت الأحلام الجميلة اليوم كانت مجرد دكاكين لتهريب العملة.