استشهد الكثير من رفاقنا الشيوعيين في الأوراس غدرا على أيدي الخونة وعملاء الاستعمار والرجعية الجزائرية، وفي مقدمة الشهداء كان رفيقنا المأسوف عليه العمراني العيد نقيب المحامين في باتنة، وكذلك الرفيق جورج رفيني الخبير في حرب العصابات، ومن المقاتلين القدماء في صفوف الجمهوريين الإسبان ضد تمرد الجنرال الفاشي فرانكو. كما استشهد الكثير من رفاقنا الأوراسيين الذين قتلوا غدرا، ومنهم: الرفاق رفرافي الصادق وأخيه مصطفى، ورفرافي المولود، وتاسوريت سي لخضر، تاسوريت بلقاسم سي الحاج، وتاسوريت المسعود وعمران علي، وعمران محمد، وعمران عبد الحميد، وتامشماشت محمد بن مبارك وابنه، وطهراوي ححامة، وطهراوي سي لخضر وطهراوي الحاج مصطفى وغيرهم.. استشهد هؤلاء جميعهم عند بدء الثورة بطرق الاحيتال والخديعة، منهم من قيل لهم: إن الأعراش تثق بكم لذلك اخترناكم للتعاون سرية على جمع المؤن والأموال لجيش التحرير، بينما أقاموا لهم في نفس الوقت كمينا في الطريق قضى عليهم، ومنهم من دعي (لاسيما من رفاقنا المسؤولين) لحضور اجتماع في الليل ولم يعودوا ليومنا هذا، وقيل لأحد الرفاق أن رفيقك فلان يطلب مقابلتك على الاجتماع الفلاني فذهب ولم يعد، وهكذا حتى اتضح الأمر. وكان أعوان الاستعمار والرجعية هؤلاء يختارون بمثل هذه الطرق أشد المناضلين حزما وإخلاصا، وأقواهم على المستعمر شكيمة، وخبرة في التنظيم والنضال بتشكيلة المسلح وغير المسلح، أما الذين استشهدوا في ساحة المعارك من رفاقنا في جبال الأوراس فكثير جدا. وهكذا أيضا وقع لرفاقنا المخلصين حتى في فرنسا، من جانب أناس كانوا بالمس يدعون أنهم قمة الوطنية ويتهمون الاخرين بالخيانة والعمالة للامبرياليين، وما إن دوت حرب التحرير في الصعود، حتى رأيناههم يجندون قواهم وانفسهم لامع الثورة بل ضدها، ويصوبون أسلحتهم لا لصدور جيوش المستعمرين الغزاة بل لصدور جنود حرب التحرير والمناضلين في الجبهة والشيوعيين، وكم من المرات ولوا منعي من متابعة نشاطي الحزبي بواسطة التمثيل في فرنسا، كما حاولوا اغتيالي، لكن اللّه حفظني من مكائدهم وخيانتهم. رشحني الحزب عام 1954 للانتخابات في سيدي عقبة وسيدي خليل واليانة، مقابل أبناء بن ڤانة سليم وبولخراص، وكان اجتماع أقمته مع الرفاق بهذه المناسبة في بلدة سيدي عقبة، توجهت لجميع المحتشد، بعد إعطائي الكلمة، قبل كل شيء بالشكر والثناء على استجابتهم للدعوة التي قدمتها منظمة الحزب إليه، والاستماع إلى رأي حزبنا الشيوعي الجزائري في هذه الظروف العصيبة، ومما قلته لهم إن بن ڤانة قد توفي لكنه ترككم إرثا لأولاده من بعده، وهم اليوم كما ترونهم يتخاصون فيما بينهم على من ينال حصة الأسد من استغلالكم بعد وفاة أبيهم، وها أنا قد رشحني حزبي كي أكشف الستار عن أعمالهم الاجرامية وأعوانهم الجواسيس، الذين يتظاهرون لنا بالمودة ولا يدعونني لتناول طعام الغذاء والعشاء إلا لكي ينقلوا أقوالي الى سيدهم بن ڤانة، وهم يظنون أننا في غفلة عنهم وعن مؤامراتهم، غير أنني أقول لهم أن ما تنتظرونه مني سأشرحه أمام الشعب كله، وعليهم إبلاغه لحكومتكم وأسيادهم ليلقوا على القبض كي يشفوا غليلهم مني ومن حزبي. إنني اقول لهم ألا يكفيكم ما قمتم به من اعمال الوشايات والدسائس منذ 1920 وأنتم تدبرون المؤمرات وتحبكون الدسائس، هل استطعتم انتم وأسيادكم القضاء على حزبنا وعلى شخصي؟ إنكم ايها الجبناء بأعمالكم هذه تعتدون على حقوقكم وتخربون بيوتكم بأيدكم، وتطفئون النور الذي يهديكم إلى الصراط المستقيم، انني ترشحت لهذه الانتخابات لا طمعا في النيابة، وإنما لكشف مؤمرات المستعمرين والمستترين خلفهم. إننا لا نريد منكم إلا أن تكونوا رجالا تدافعون عن وطنكم وحقوقكم وأن تتركوا الأوهام في المستمعمر والخوف منه، انظروا الي، انني منذ سنين عديدة وأنا أقاوم مع حزبي الحكام الاستعماريين واعوانهم، من باشاغاوات وقياد ولن أتراجع عن هذه المقاومة مهما اصابني من مكروه: سجن، تعذيب، تشريد، وكم من المرات حاولوا اغتيالي لكنني مازلت كما ترون حيا أرزق، لقد بلغنا أن اذناب المستعمرين كانوا يأخذون منكم بطاقاتكم الانتخابية كي يصوتوا بها باسمكم على أسيادهم، غير أننا سنقف لهم هذه المرة بالمرصاد ولن ندع أحدا مهما علا شأنه أن يمارس مثل هذا الاعتداء على حقكم، وما عليكم أيها الإخوان والرفاق إلا أن تذهبوا إلى صناديق الاقتراع وأن تمارسوا حقكم في الانتخابات ولا تخشوا لومة لائم، وانتم أيها الوشاة والاذناب اذهبوا إلى أسيادكم وبلغوهم ما قلناه هنا. إنكم تعلمون جيدا أن سيدكم بن ڤانة حاول بالفعل قتلي لكن هو الذي رغم جبروته مات كمدا، أما انا العبد االفقير مازلت اجاهد بقوتي وقوة حزبي ضد القهر والطغيان الاستعماري، ولن نتراجع أبدا حتى النصر الاخير وهو قريب إن شاء اللّه، تذكروا هذه الكلمات، فربما تكون كلماتي الأخيرة لكم، واسمحوا لي أن لا اتكلم عن المرشحين الآخرين لأنكم تعرفونهم حق المعرفة وهما لم يترشحا إلا بدافع من السلطات الاستعمارية المحلية ليتقاسموكم كغنيمة فيما بينه، وان ما أبديناه من المقاومة ضد والدهم لازلنا مثابرين عليه حتى نقضي على الظلم والاستغلال في بلادنا والسلام عليكم. دخلت يوم الانتخاب مكتب الاقتراع، وتوجهت للرئيس والاعضاء بقولي: إنكم تعرفونني جيدا، فبينكم تربيت ومعكم قرأت، وكل ما أطلبه منكم هو احترام القوانين وترك الناس يصوتون بحرية، وإذا اعتديتم على حرمة القانون السابق فاننا سنأخذ موقفا آخر لم تشاهدوا مثله في السابق، ثم خرجت بعدما عينت من يراقب باسمي عملية التصويت. لقد سر الفلاحون من موقفي هذا، وأتاني البعض من كبارهم ليعلموني بمقاطتهم لكافة الإنتخابات السالفة، أما اليوم وبعدما اشفيت غليلنا بخطابك وموقفك الصحيح بكشفك أعمال هؤلاء الخونة الجواسيس، فإننا سنصوت لك. أتاني السيد بولخراص بن ڤانا يندب حظه، ويطللب مني القيام معه باحتجاج مشترك ضد تصرفات السلطات المحلية بعدما خدعته ووقفت بجانب أخيه سليم، فأجبته: لمن تريد تقديم هذا الاحتجاج ؟ ثم اضفت قائلا: إن نتائج الانتخابات كانت لدى إدارتكم كما تعلم، مهيأة منذ اليوم الاول من اعلان الحملة الانتخابية لفائدة أخيك سليم، وليس الهدف من ترشيحي لها سوى توسيع نطاق المقاومة الشعبية وكشف مؤمرات الحكومة وعدوان أعوانها على حقوق الجماهير العاملة والفلاحين ليتجندوا اكثر من السابق للدفاع عن حقوقهم وفرض حرية الانتخاب، ثم لمعرفة قوة حزبنا الشيوعي الجزائري بما يناله من الاصوات في الاماكن التي نراقبها، أما انت فلا تتعب نفسك إذا أردت الاحتفاظ بمركزك فذهب لحال سبيله. التقيت في اليوم الثاني من الانتخابات بجماعة مكتب الاقتراع قالوا لي: إنك هددتنا بالامس بقولك: إذا اعتديتم على حرمة القانون فسنتخذ موقفا لم تعهدوا مثله في السابق، ما هو هذا الموقف؟ هل اردت ان تأتينا بعرشك لتحطمنا؟ إنني لست متهورا مثلكم لأقوم بمثل هذا العمل، إنكم تعلمون كم من المرات حاولوا اغتيالي فلم نسهم بكروه، مع أننا نعرفهم وقادرون على اغتيالهم، لكن مبادئنا لن تسمح لنا بالقيام بممثل هذه المغامرات القدرة التي هي صفات المستعمرين وأعوانهم، وتحط من قدر القائمين بها من الناحيتين السياسية والإنسانية. ولكن اجاب أحدهم قل لنا باللّه عليك، ماذا كنت تريد أن تصنع فيما لو تم التزوير في مكتبنا؟ فأجبته، كنت أود الهجوم مع رفاقي عليكم عند فتح الصندوق والشروع في تسجيل النتائج لكشف كل الأوراق، حتى لو أدى ذلك إلى اعتقالنا أوقتلنا.. لأننا قررنا على مقاومة التزوير بكافة انواعه، إنني اعرف ذلك سلفا قلت لهم، وهدفنا هو أن يمارس الفلاح والعامل والناخب بصورة عامة حقهم في التصويت دون أي ضغط وتزوير، ثم اردفت أقول أريد منكم أن تجيبوني بصراحة كما أجبتكم، هل كانت الانتخابات عندكم تسير في السابق على نفس الطريقة التي سارت عليها بالأمس؟ أجابوا: كلا، انها المرة الاولى التي تسير فيها الانتخابات دون تزوير، وقد تأثرنا ايضا بخطابك الذي لم نسمع مثله من المرشحين الآخرين ، فأجبتهم وهنا يكمن نجاحنا، وكان الفائز في هذه الانتخابات هو كما قدرنا سلفا، مرشح السلطات، المحلية سليم بن ڤانة. ذهبت فيما بعد إلى الاوراس للاجتماع بالرفاق الشيوعيين هناك ومنهم عكاشة بولخراص، عكاشة عمر، وفرزة وعمروس محمد وحمزاوي بلقاسم وغيرهم، لكي أعلمهم ما علمت به الرفاق في دوار تاجموت بنتيجة الاجتماع الذي تم بيني وبين سي مصطفى بن بولعيد، ومرداسي سي محمد، و عكاشة سي محمد الذين عرضت عليهم تكوين جبهة موحدة بيننا في الاوراس، والشروع في تدريب الفلاحين النقابيين والحزبيين وتهيئتهم للثورة، واتفقنا جميعا على أن يبقى هذا الامر سرا مكتوما بيننا، وطلبت منهم لكي لا يخبروا أحزابهم ولا رؤساءهم بهذا القرار، لانهم لن يقبلوا به لما بينهم من خلافات وحزازات حزبية، وأن يقوم كل واحد منا بتدريب أصحابه دون ان يعلمهم بحقيقة الهدف من هذا التدريب لكي لا ينتشر الخبر وتأخذ السلطات الفرنسية احتياطاتها، حتى إتمام الاستعدادات ومنها التموين بالعتاد والسلاح انتقاء الرجال المؤهلين للمقاومة، والذين لا يتجاوز عمر احدهم 40 سنة، ويتمتعون بصحة جيدة.. ثم أعلمت الرفاق بما قمت به من المساعي لتكوين مثل هذه الجبهة، وبقولي لممثلي الاحزاب الاخرى: إنني جئتكم لمطلب رأيكم في تكوين هذه الجبهة لكي لا تقولوا إنك قمت بالثورة وحدك ولماذا لم تعلمنا، نحن مناضلون ومتعذبون ومن الأوراس، وكان كما قلت لهم أول من تناول الكلمة هو سي مصطفى بن بولعيد، وأبدى موافقته على هذا الرأي حتى وإن لم يوافق عليه الآخرون، ثم تكلم عكشة سي محمد من حزب البيان.. وأنا كذلك أوافق، ويد اللّه مع الجميع، ثم تكلم مرداسي سي محمد من جمعية العلماء وقال: أنا لن اتخلف عن الركب بل يلزمني متابعته.. عندها قلت لهم : ها هي يدي أمدها اليكم، واعاهدكم بالسير في هذه الثورة حتى النصر النهائي وأعاهدكم على أن لا اخبر أي حزب من الاحزاب حتى حزبي الشيوعي بما تم بيننا من اتفاق، فمدوا أيديهم وتعاهدوا على ذلك. وفي المساء تناولنا طعام العشاء عند مرداسي سي محمد وقدم لنا بدوره المصحف، وعليه جددنا العهد وطلبنا منه قراءة الفاتحة لتأمين نصر اللّه لقضيتنا، ثم افترقنا ليعمل كل واححد منا في ناحيته. وشى بي أحد المسؤولين من حركة انتصار الحريات الديمقراطية ويدعى محياس محمد، وكان يتجسس علينا لدى الحاكم السابق فابي وشى بي للحاكم الجديد روبي بدعوى اني أتيت من باتنة لإشعال نار الثورة في الاوراس، كما اعلمه بمكان إقامتي عند الرفيق عكشة بولخراص. قابلني الحاكم الجديد بسيارته وكنت أسير صحبة الرفيق عكشة عمر، فقال له سائق سيارته هاهو شباح مكي امامنا، ولما وصلوا الينا أمره الحاكم بالتوقف عن السير، خرج الحاكم من سيارته وطلب مني هويتي، وبعدما تصفحها ردها لي، ثم التفت الى عكاشة عمر وطلب منه أيضا هويته فأجابه: تركتها في منزلي، فتركنا وانصرف عنا. أتى حارس الحقول (شانبيط) في اليوم التالي بدعوة الى بولخراص عكاشة وبولخراص عمر، وعمروس محمد لمقابلة الحاكم، فاتوا ليستشروني في هذا الامر، فأشرت عليهم بالذهاب بمقابلته، وأعلمتهم كما بلغني عنه بأنه فظ غليظ ولكن لا تخشونه، فإن قابلكم بالحسنى فأجيبوه بالحسنى، وإن قابلكم بفظاظة فأجيبون بفظاظة أشد، وإياكم ان تخجلوا منه وإذا اصابكم مكروه فاني قادم إليكم صحبة نقيب المحامين في باتنة الرفيق عمراني العيد. وهكذا ذهب الثلاثة لمكتب الحاكم الذي توجه الى الرفيق عكشة بولخراص بقوله: بلغني انك تقيم الضيافات للشباح مكي ورفاقه، فأجابه: نعم إني اقيم الضيافات، وهذا من طبائعنا نحن الاوراسين، ولم أطلب من سيادتكم اعانة لهذا الغرض، يبدو لي أنك طويل اللسان.. قال الحاكم، اخرج قبل أن أحطم رأسك بكرسي، اسمح لي ايها السيد الحاكم - أجاب الرفيق بولخراص - كنت اظن أنك دعوتني لأمر يستوجب العتاب والسجن، ومع احترامي لك في مكتبك هنا كحاكم، أطلب منك الخروج اذا اردت الضرب بالكراسي، ليرى الشعب من الذي يضرب صاحبه، عندها أمر الحاكم البريغادي بإخراجه من مكتبه.. لأنه لا يريد النظر في وجهه. يتبع