لا أقصد بهذا العنوان التبشير لعودة الماركسية وللشيوعية الليننية أوالماوية أوالاشتراكية العلمية وغيرها ، ولا أقصد به أيضا استفزاز الإسلاميين الغاضبين على الماركسيين "الملحدين " ولا الليبراليين الناقمين على "دولة الجماهير الكادحة". كل ما في الأمر، أنه أثناء متابعتي لأخبار الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على سكان المعمورة ، صادفت خبرا يدل على العنوان المقترح، ومفاده أن إحدى وكالات الأنباء العالمية وهي وكالة " رويترز" البريطانية نقلت تصريحا لبائع كتب ألماني مختص في الأدب الشيوعي يقول فيه إن مبيعات الكتب الشيوعية قد بدأت في الارتفاع منذ العام 2005 . ويؤكد يورن شوترومف، مدير دار نشر "كارل ديتز فرلاغ" في برلين بألمانيا أن كتب كارل ماركس تلقى إقبالا منقطع النظير، وقال الناشر المشارك في معرض الكتاب بفرانكفورت الذي أقيم بداية الشهر الماضي بألمانيا،" إن أبرز مبيعاته هو "رأس المال" كتاب الماركسية الأساسي، الذي ألفه كارل ماركس وفريكريك أنجلز عام 1867 . ويذكر الناشرأن فئة الشباب هي أكثر الفئات إقبالا على شراء هذا الكتاب وغيره من المؤلفات الشيوعية .. و يأتي هذا الإقبال في الوقت الذي يشهد فيه العالم ركودا اقتصاديا لم يحدث مثله من قبل. وفي قراءته يعتبر الناشر الألماني هذا التهافت بأنه محاولة للبحث عن حقيقة العولمة والرأسمالية، ولا سيما في أعقاب الأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي ليصل الى القول أن "مجتمعا يشعر مجددا بضرورة قراءة ماركس هو مجتمع لا يشعر أنه بخير" . ما قاله الناشر الألماني قد يكون انطباعا عابرا، وقد يكون اجتهادا لفهم ما يحدث في محله . لكن الشيء المؤكد إن كثيرا من الناس، ومنهم خاصة المحللين والمراقبين السياسيين والاقتصاديين، خاصة العرب منهم ، تذكروا هذه الأيام منظر الماركسية الأول كارل ماركس، وقد سمعت أحدهم في فضائية " العربية " يقول إن الماركسيين الآن مبتهجون لما يحدث جراء الأزمة الاقتصادية التي تدل على الانسداد الذي وصلت إليه الرأسمالية العالمية. واعتبر محلل آخر بأن ما حدث هو نهاية لليبرالية المتوحشة. على ذكر الليبرالية المتوحشة، فإن الأزمة الحالية حدثت نتيجة للطموح الكبير في الربح السريع، وهي تشبه الأزمة التي حدثت في العام 1929 من حيث الحدة والخطورة، ولكن الأزمتين لا تتشابهان في الأسباب التي أدت الى حدوثهما. فأزمة 1929 جاءت إثر خطأ ارتكبته الجهات النقدية حينما خفضت عرض النقد بما يقارب ثلث قيمته كرد فعل على انهيار بوصة "وول ستريت " الأمريكية الشهيرة، وهذا ما حول الكساد إلى انهيار اقتصادي كبير، واكتشف هذا الخطأ الفادح في التقديرات الخبير الاقتصادي الكبير "ميلتون فريدمان" بعد ذلك ووعد بأن لا يتم فعلها ثانية. ولكن وقع خطا آخر وفعل الأمريكيون نفس الفعلة التي حدثت من قبل في العشرينيات، فكانت الأزمة الحالية للعام 2008 والتي حدثت انطلاقا من شركات الرهن العقاري التي قدمت قروضا غير متطابقة مع السلامة المالية للراغبين في الاستفادة من سكن دون أن يدفعوا أي تسبيق، وقد بلغت مبالغ القروض التي قدمت السعر الكامل للسكن وفاقته في بعض الأحيان دون مراعاة الشروط التي تمكن من سداد القرض مثل قدرة الزبون المالية، وكانت الشركات الممولة تهدف من وراء هذا إلى تحقيق أكبر هامش من الربح، وهذا ما حصل في أول الأمر فارتفعت بالتالي نسبة القروض الممنوحة في الفترة الممتدة من العام 1994 إلى العام 2003 ب 25 بالمائة . والمشكلة التي حدثت بعد ذلك أن المقترضين لم يستطيعوا السداد. وللسياسة دور في الأزمة ... ولم تخل الأسباب التي أدت إلى الأزمة الحالية من العوامل السياسية، فقد مارس أعضاء الكونغرس- البرلمان الأمريكي - النافذين ضغوطا كبيرة على المؤسسات التمويلية العملاقة مثل "فريدي ماك و "فاني ماي" لتسهيل عمليات منح القروض لما فيها من مصلحة الناخبين لأعضاء الكونغرس، وقد كان من جهة أخرى لهذه المؤسسات تأثير على الكونغرس كونها من أهم ممولي حملات أعضائه الانتخابية. ومن هنا اجتمعت عوامل الفساد المالي والسياسي لتنتج أزمة اقتصادية خانقة. وبتفسير دقيق لخبراء الاقتصاد فإن " الأزمة المالية الراهنة جاءت نتيجة خلل في النظام المالي العالمي الذي تقوده الولاياتالمتحدة نتيجة تراكم الانفصال المتزايد ما بين الأصول المالية والأصول الحقيقية، إضافة إلى عمليات التلاعب والتدليس على المشترين". ويرفض كثير من المختصين أن يكون هذا الخلل المالي سببا في نهاية الرأسمالية. وقالوا إن "ما سيحدث هو إعادة ترتيب للنظام المالي وإعادة ترتيب لأولوياته حتى لا تنهار دول محورية وهو ما يؤدي الى تدهور أمني يصيب العالم". ويشير هؤلاء المختصين الى دولة باكستان كنموذج . ضربة للرأسمالية المتوحشة وفي هذا السياق أكد كينيث روغوف أستاذ الاقتصاد والتخطيط الحكومي بجامعة هارفارد الأميركية، أن النظام المالي انتقل على مدار 15 عاما من القوة إلى الضعف، وتفشى الاقتراض بأموال طائلة سواء من قبل الحكومة أو الأفراد. موضحا بأنه تم السماح لحدوث خلل بنيوي في النظام المالي ولم تتم معالجته. وقال روغوف إن هذا النظام سيعود لما كان عليه قبل ثلاثين عاما حيث كانت تسود الرقابة المالية وتدخلات الحكومة خاصة في الإشراف على الخدمات الصحية والاجتماعية. وينفي الخبير الأمريكي بأن تكون نهاية الرأسمالية قريبة، لكنه يقول "الذي سينتهي هو نظام رأسمالية "رعاة البقر" في القطاع المالي". وعلى كل حال فإن "كل يغني ليلاه " كما يقول المثل العربي، فقد بدا اليساريون متفائلون من إمكانية عودة الشيوعية من خلال الدور الذي بدأت تلعبه روسيا في السياسية الدولية خاصة في أزمة جورجيا في الصيف الماضي والتي اتضحت من خلالها ملامح رجوع القطبية الدولية، في حين قال خبراء إسلاميون شاركوا في ندوة "نهاية الرأسمالية" التي نظمتها قناة الجزيرة نهاية الشهر الماضي أن "هناك فرصة أمام التمويل الإسلامي ليقدم نفسه ويطرح نموذجا جديا وخدماتيا للعالم بغض النظر عن البعد الديني، لأنه نظام مالي متزن ومحكوم بوجود كوابح تمنع الانفلات".